لكي لا نلج غياهب التجهيل من أبواب "التنوير"
Ahmed Meiloud
لا تزال بعض النخب العربية يمارس دوره المتميز في تجهيل الناس بدل تنويرهم. لعشرات السنين كان من عرفت فيه الحكومات العربية أي نوع من المعارضة الجدية تدق الشرطة باب داره و قد لا يراه الناس ثانية. حصل هذا في مصر جمال عبد الناصر، مصر السادات و مصر مبارك، عراق صدام و في طرابلس مجنون ليبيا، في الجزائر و في المغرب و تونس و غيرها حتى أصبحت الأقلام الحرة المسؤولة--و ليست المغرضة أو المنافقة--قلة قليلة يبحث عنها المرأ فلا يكاد يجدها. في ذلك الجو لم تكن هناك حاجة للمحاكم و لا لرفع القضايا، من فتح فمه بسوء طاف عليه طائف من "الأمن" بليل فإما أخرس أو غير فكره، أو قدم إلى ما قدم. من سلم من هذا هجر الأوطان.
طبعا ليس كل من كتب صحفي مميز و لا كل من رفع قلما قدم علما أو فكرا راقيا. الكثير مما يكتب إسفاف لا فائدة من ورائه و تجريح لا نقد. الأمم الضعيفة تعرف كيف توجع بالتجريح لأن الفكر الفاشل فكر هدم لا فكر بناء...
الكثير من كتاب العرب و مثقفيهم صوروا المجرمين، السفاحين على أنهم زعماء، فاتحون، مخلصون، مخلّصون، يعيشون أمل و ألم الشعب، وكلما أنقشعت ظلمة من ظلمهم قلبوها لنا أي مقلب، جعلوا حالك ليلها نورا على نور، صوروا الجبن شجاعة و الشر خيرا و الهروب هجوما إلى آخر ذلك مما يعرفه من عاش أو من قرأ عن زمان هؤلاء.
ذنب مثقفي العرب وخصوصا الكتاب منهم أنهم لم يفعلوا هذا فحسب. بل جرمهم أنهم حولونا إلى أمة للنقائض، إلى أمة للمبالغات، فلا نعرف كيف نقتصد في القول، كيف نتبين السليم من السقبم. جرمهم أنهم أورثونا قاموسا من السباب و الشتائم بحيث أصبح في و سعنا أن نسخر من كل شيئ و نشتم كل شيئ، وأن نقول كل شيئ عن أي شيئ! صار بوسعنا بل صار من شيمنا أن نقول "هذا" أحسن شيئ و "هذا" أسوأ شيئ، لكن أن نحاول أن نعرف ما "هذا" أو نصف "هذا" ببعض ما فيه فعلا، فهذا ما لا تهتدي إليه عقولنا و ما لا تعبر عنه ألسنتنا. فنحن مجمتع أفعل التفضيل أو التبخيس و السخرية.
السيئ في هذا ليس أننا لا نتعرف على الأشياء كما هي فحسب، لكن السيئ أيضا أنه بجرة قلم يمكن أن ننسى الواقع الذي و لدت فيه هذه الثقافة بل و نعمل على تمجيده و إعادة إنتاجه.
في هذه الأيام تمارس النخب العربية هذا الدور بإمتياز، فهي تعمد إلى تصوير الأوضاع المتأزمة في العالم العربي، خصوصا في الدول التي نجحت في أجتياز مرحلة من مراحل الربيع العربي نحو جو أفضل من الحريات ، بسبب التدافع الطبيعي بين الناس من مختلف الطوائف على إقتسام ما يرونه كعكة السلطة، و بسب الجهود الحثيثة التي تبذلها القوى المافوية التي تحكمت في هذه البلاد عصورا لعرقلة جهود هذه المرحلة، يصورون هذه الأوضاع على انها الأسوأ في تاريخ العرب. ومن أجل ذلك يروجون مجموعة من الحقائق المجتزأة و المنزوعة من السياق.
خذ مثلا قضية رفع القضايا ضد الصحفيين في مصر و تصوير الحريات و خصوصا حرية التعبير بأنها تعيش أسوأ أو قاتها في مصر. بعض وسائل الإعلام العربية كقناة العربية و غيرها روجت الفكرة. يا ألهي إن رفع الدعاوى القضائية ضد الصحفيين في مصر من قبل الرئيس الحالي أو حزبه هي الأكثر عبر التاريخ المصري. طبعا لا يعطينا هؤلاء السياق الذي يحصل فيه هذا. المهم أن يخيل إلى القارء أن ثمة حملة شعواء من طرف النظام لتكييم الأفواه. وفي قراءة متعمدة أو ساذجة للأرقام تتم لعنة الحاضر و تمجيد الماضي.
وقبل أن أوضخ جوانب من القصور إن لم نقل الحيف و التجهيل المتعمد في هذا الطرح فأسمحولي أن أبين مجموعة مسائل.
١- شخصيا أعارض أي تضييق على الصحافة، وأومن بأن على الحكومات أت تحمي حقوق الأفراد و الجماعات صحافة أو غير صحافة في التعبير عن أنفسهم،
٢-رغم أن حرية التعيبير حق لكل الناس، فليس من حق أحد أن يشتم شخصا أو أن يتهمه بغير دليل.
٣ـ هناك طرق كثيرة لنقد الناس لا تنطلي على سباب و شتم أو إتهام من غير بينة،
٤- ليس كل من حمل قلما أو سود صفحة أصبح مدافعا عن الحرية. و ليس كل من شتم الدكتاتورية أصبح ديموقراطيا.
٥- الكتابة مسؤولية و ليس مجرد فعل عبثي.
٦- الحرية لها حدود وإلا لكانت الفوضى مطلب كل الأحرار.
طيب أرجع الآن إلى قضية المنسي أو المتجاهل في رفع الدعاوى.
١- هذه القضية عامة في كل جوانب الحياة في دول ما بعد الربيع و خصوصا مصر. فالناس التي أكتشفت أخيرا القضاء بعد أن نزع الخوف من الناس من الشرطة و بعد أن أصبحت هذه تكاد تكون معدومة، أصبحت ترفع القضايا بشيئ و بغير شيئ. فكل من لم تعجبه طريقة تسريح شعرك (من باب المبالغة)رفع شكوى منك إلى إحدى المحاكم. يستوي في هذا أنصار الرئيس و معارضوه.
٢- الإعلام بسب كونه أهم أدوات الصراع في مرحلة ما بعد مبارك بين القوى السياسية سواء الإخوان أو غيرهم صار أكبر المؤسسات بروزا وأكثرها إستقطابا، ولهذا فمن الطبيعي أن يكون أكثرها عرضة لرفع القضايا أما المحاكم.
٣- لكي ترفع قضية ضد أي أحد بالحق أو الباطل لا يحتاج المرأ أن ينتمي إلى حزب سياسي أو أن يكون عضوا من أعضاء الحكومة، أو أن يتلقى إخطارا منها. كلما يحتاجه المرأ كره الشخص المشكو منه لسب أو لآخر و الرغبة في جره إلى القضاء.
٤- الشكاوى طالت الإخوان أنفسهم و الرئيس نفسه، وهو ما لم يحصل من قبل. الرئيس متهم في بعض الدعاوى أمام القضاء بالخيانة و تلقي أموال من أمريكا و بيع مصر لقطر إلى آخر ذلك.
٥-ورفع القضايا مورس حتى من طرف فنانين على من رأوا أنهم إتهموهم في أعراضهم أو أعمالهم وفيهم من عوقب بالفعل كقضية الفانة الشهيرة إلهام شاهين.
٦- ليست كل الدعاوى المقدمة ضد الصحافة من الحكومة أو حتى من الإخوان... مع أن هناك حرب رفع دعاوى قضائية بين الإخوان و غرمائهم وبالفعل يشارك فيها من طرف الإخوان فيلق من محاميهم، كما ينوب عن الآخرين فيالق من المحامين وإن كانوا أكثر تشتتا وأقل تنظيما.
هذه هي الأسباب التي تخلق هذا الجو الذي يصفه البعض بملاحقة الصحافة. وهو جو يعبر عن حالة الإحتقان السياسي لكنه أيضا يعبر عن مستوى الحريات العامة التي لا يمكن بحال من الأحوال مقارنتها بسابق العهود.
الدعاوى القضائية أصبحت أرقاما هائلة لكن تأثيرها على حرية الصحافة
في الغالب محدود، فالكثير من القضايا إما لا ينظر فيها، أو تلغى أو أو ، و من بالفعل جاء إلى المحاكم أعطي صك برائة في الغالب.
المهم أن هذا عمل محاكم وليس عمل بوليس سياسي.
ما لا تقوله هذه التقارير و ما هو واضح أن الحكومة في مصر اليوم لا ترسل الأمن في ظلمات الليل لإختطاف الناس من بيوتهم و تخويفهم و الزج بهم في السجون، و تعذيبهم، دون أمر من القضايا أو دون متابعة من المحاكم.
كان التعاطي لأمني هو الطابع العام في االتعامل مع الصحافة و غير الصحافة في العصور السابقة، وهذا ما لم يعد موجودا اليوم. طبعا مستوى الحريات هذا ليس منة من أحد على المصريين أو غيرهم فهو ليس بفضل مرسي أو الإخوان أو غيرهم، كما أن إرتفاع أعداد الشكاوى و الملاحقات القضائية ليس من شرور الإخوان ولا رجسا من أرجاس الشيطان كما تريد لنا النخب التي تلقي الكلام على عواهنه أن نتصور. ومن العدل أن يذكر و الناس تنتقد جوانب تقصير الحكومات العربية في ما بعد الربيع العربي و هذا حق، من العدل أن يذكر لها أنها لم تعمل--على الأقل حتى الساعة--على بولسة و عسكرة الحياة.
وليذكر كل صاحب قلم قول رسول الله صلى الله عليه و سلم:
من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت.
تعليقات
إرسال تعليق