"تحليل التراث الإسلامي"
مقتبسات من كتاب هرالد موتسكي "تحليل التراث الإسلامي".
ترجمة: د. أحمد عبد الكافي ميلود
تعتبر
رواية العالم المكي ابن جريج (ت ١٥٠\٧٦٧) من المصادر المبكرة و المهمة لفقه
الزهري، وهي كمثيلتها في رواية معمر بن راشد عن الزهري موجودة في مصنف عبد الرزاق
الصنعاني، وتمكن إعادة تجميعها على أساس سلسلة أسانيدها. وبما أنني سبق وأن ناقشت
رواية إبن جريج فإني سأحصر كلامي هنا على النقاط الجوهرية لمقارنتها بالمصادر
المبكرة الأخرى لنصوص الزهري. ومقارنة مع نصوص معمر فإن رواية ابن جريج في مصنف
عبد الرزاق شبيهة من حيث الحجم، فهي تحتوي على أكثر من ٥٠٠٠ نص مستقل. وعلى النقيض
من نصوص معمر التي رأينا سابقا كيف أنها تغلب فيها الرواية عن مصدرين من بينهما
الزهري، فنصوص بن جريج يغلب عليها مصدر أساسي واحد وهو العالم المكي عطاء بن أبي
رباح، إذ أن حوالي ٤٠٪ من نصوص إبن جريج تنسب إليه. أما البقية فهي تعزى إلى عدد
كبير من الرواة (أكثر من مائة). ومن بين هؤلاء ذكر خمسة رواة بشكل أكثر إضطرادا.
وهؤلاء الخمسة هم: العالم المكي عمرو بن دينار (٧٪) العالم المدني إين شهاب (٦٪) و
اليمني إبن طاووس (٥٪) والمكي أبو الزبير (٤٪) و العراقي عبد الكريم المعروف
بالجزري (٥٪).
وكما هو
الحال في رواية معمر في مصنف عبد الرزاق فإنني أرى أن الإختلاف الكبير في عزو
النصوص إلى رواة مختلفين في نصوص ابن جريج و كون هذه النصوص تحتوى على آراء ابن
جريج نفسه، و كونها تحتوي على قدر معتبر من الأحاديث المنسوبة إلى مجاهيل، فإنني
أرى أن كل هذا يعارض نظرية الوضع، والتي أعني بها القول بأن ابن جريج عزى كذبا
آرائه الفقهية الخاصة و تلك التي تعود إلى علماء آخرين بمكة وأماكن أخرى إضافة إلى
آثار وأحاديث انتشرت في عهده إلى جيل من العلماء السابقين لعصره.
فمن
الأقوم تأويل حالات العزو المثيرة للانتباه في نصوص إبن جريج بالظروف التاريخية
الخاصة بحياته. فمثلا يمكن تفسير كون عطاء بن أبي رباح المصدر الرئيس الوحيد لابن
جريج بأن عطاء كان أستاذه الرئيسي الذي قضى معه معظم وقته و أخذ عنه أكثر مادته.
كما أن
ثمة أدلة أخرى ضد فكرة الوضع تتأتى من خلال المقارنة بين النصوص التي ينسبها ابن
جريج إلى شخصيات مختلفة، وسيكفي للتمثيل إجراء مقارنة بين النصوص التي ينسبها إبن
جريج لعطاء و تلك التي ينسبها للزهري، الذي غالبا ما يسميه ابن شهاب.
لكن
دعونا أولا ننظر إلى الأمور الملفتة لإنتباه الباحث في مرويات إبن جريج عن عطاء
إبن أبي رباح. إن حوالي ٨٠٪ من هذه النصوص هي أراء لعطاء ابن أبي رباح، بينما لا
تزيد على الخُمس النصوص التي تحتوي على أثار أو أحاديث يرويها عطاء منفردا. إن
الأشكال التي يقدم فيها ابن جريج آراء عطاء مثيرة حقا. فبالإضافة إلى الأقوال (Dicta) التي يعزوها ابن جريج إلى عطاء نجد قدرا
يكاد يكون مساويا من الأجوبة (responsa) التي يرد بها عطاء على أسئلة يطرحها ابن جريج نفسه، ونادرا ما
نجد أجوبته على أسئلة أناس آخرين سواء من المعروفين بالأسم أو من المجاهيل.
وعندما
نقسم آثار وأحاديث عطاء على أساس مصادره نلحظ
كون عطاء
يقتبس من أقوال الصحابة بشكل أكثر و من أقوال الرسول صلى الله عليه و سلم بدرجة
أقل، ومن أقوال معاصريه بشكل أندر. كما نلحظ قدرا كبيرا من حالات الإستشهاد
بالقرآن. ففي أقوال الصحابة يطغى الإقتباس من ابن عباس في نصوص عطاء بشكل واضح،
فهو يذكره حوالي ثلاثة أضعاف المرات التي يحيل فيها إلى عمر بن الخطاب، الذي يعد
ثاني أكثر هذه المصادر ذكرا، ويرد أسمه بدوره ثلاثة أضعاف المرات التي يذكر فيها
علي و عائشة (رضي الله عنهم أجمعين). أما الصحابة الآخرون كجابر بن عبد الله، وأبي
هريرة، وابن عمر، و غيرهم فإنهم نادرا ما يظهرون. ومن الواضح جدا أن إحالة عطاء
إلى أقوال بن عباس تفوق الإحالة إلى الأحاديث النبوية عددا، لكنها مع ذلك تأتي في
المقام الثاني قبل كل الصحابة الآخرين. وعطاء نادرا ما يذكر أسماء الرواة الذين
ينقل عنهم أحاديث الصحابة، ويذكر في الُربع فقط من الأحاديث النبوية إسنادا غير
مكتمل. "
2
وعلى
النقيض من روايته عن عطاء حيث تغلب آراء هذا الأخير، فإن رواية ابن جريج عن
الزهري تتكون أساسا من الأحاديث
التي يظهر فيها الزهري مجرد راوِِ (٥٨٪). أما النصوص التي تحتوي على أراء الزهري
فإنها أقل ولكنها معتبرة في الآن ذاته (٤٢٪). و تأتي آراء الزهري في معظم الحالات
على شكل أقوال (dicta) ونادرا
ما تكون على شكل أجوبة (responsa). و خلافا لرواية ابن جريج عن عطاء حيث تكون الأجوبة لأسئلة لابن
جريج نفسه، فإن الأجوبة التي ينقلها ابن جريج عن الزهري لا تكون من ذلك القبيل إلا
استثناء. وأما الأحاديث التي ينقلها ابن جريج عن الزهري فيكون عروة بن الزبير
غالبا أهم مصدر أخذها الزهري منه، وهو (أي عروة) يغلب في هذا الشأن علماء المدينة
الآخرين من أمثال أبي سلمة بن عبد الرحمن، و سالم بن عبد الله بن عمر، وعبيد الله
بن عبد الله بن عتبة وسليمان بن يسار وغيرهم.
وتعزى
معظم أحاديث الزهري (آثار و أحاديث) إلى رجال من جيل الصحابة و نصف ذلك القدر من الأحاديث
فقط يعزى إلى جيل التابعين أو إلى الرسول صلى الله عليه و سلم. ومن بين صحابة
الرسول صلى الله عليه و سلم يذكر عمر بشكل أكثر، يليه عثمان بن عفان و ابن عمر و
عائشة رضي الله عنهم أجمعين. أما زيد بن ثابت وأبو هريرة و ابن عباس، وآخرون من
غير المشاهير من الصحابة فإنهم لا يذكرون إلا نادرا. فلو رتبنا هذه المصادر
(المروي عنها) على أساس كثرة ورودها لأتى النبي صلى الله عليه و سلم في المقام
الأول وهو ما يشكل مفارقة كبيرة مقارنة بالأحاديث و الآثار التي يرويها ابن جريج
عن عطاء بن أبي رباح. و يأتي على مسافة بعد الرسول صلى الله عليه و سلم الخليفة
الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه . ومع هذا فإنه من الملفت أيضا التمثيل الواضح
للخلفاء وحتى الأمويين منهم مثل عبد الملك و عمر بن عبد العزيز في آثار الزهري.
ينضاف إلى هذا أن نصف أحاديث الزهري تحتوي على أسانيد حتى وإن لم تكن كاملة في بعض
الأحايين، وأن أحاديثه النبوية غالبا ما تأتي بإسناد.
إن
مقارنة بين النصوص التي ينقلها ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح و تلك التي ينقلها عن
الزهري تظهر أنها مختلفة من حيث الحجم <عدد النصوص مثلا>، ومن حيث حضور
الرأي فيها، وفي نوعية النصوص (أقوال أو أجوبة)، وفي استخدام الإسناد، و في أسماء
الرواة الذين تعزى لهم النصوص إلخ. فلا يعقل مع هذا أن يكون ابن جريج اختلق النصوص
الواردة في كلتا الروايتين. وأعني بالاختلاق هنا أن يكون ابن جريج كتب النصوص
وحلاّها بالأسانيد اعتباطا. بل إن هنالك أدلة قوية قدمناها في موضع آخر تظهر أن
إبن جريج بالفعل حصل على النصوص التي يعزوها لعطاء من عطاء نفسه، وعلى سبيل المثال
نذكر هنا ورود أراء ابن جريج الفقهية، وتعاليقه على نصوص عطاء، و النقل غير
المباشر أحيانا عن عطاء، و كذلك نقله عن عطاء حلولا مختلفة لنفس المعضلات. وتمكن
ملاحظة هذه الأمور نفسها في نصوص ابن جريج عن الزهري، فتجد على سبيل المثال نقلا
غير مباشر عن الزهري، و إشارات إلى آراء متعارضة له. و أخيرا و من كل ما سبق، فإنه
يبدو من غير الواضح لم يعمد عالم مكي يذكر في الغالب فقط علماء من مدينته إلى
اختلاق نصوص تذكر آراء و أحاديث عالم من المدينة؟
إن كل
هذا يعضد فرضية أن تكون هذه النصوص التي يذكرها ابن جريج بالفعل للأشخاص الذين
يذكرهم في الأسانيد. وعلى خلاف ذلك يمكن أن نتصور أن ابن جريج حصل على مادته من
وضاعين مجهولين بدل الأسماء التي يذكرها. لكن هذا التصور يعني نقل المسألة فقط إلى
عالم التخمين الذي لا يحكمه ضابط، وهو ما لا يمكن قبوله كتفسير علمي معقول
الاختلافات الواضحة بين الروايتين (مجموعتي النصوص).
3
و لتفسير
الأمور التي تميز الروايتين يتوجب علينا عوضا عن ذلك النظر إلى الظروف التي أثرت
على كيفية حصول ابن جريج على مروياته والخصوصيات الفردية و الجهوية التي تميز
الأسلوب (التعليمي) للفقه عند كل من عطاء و الزهري. إن القدر الكبير من الأجوبة في
رواية ابن جريج عن عطاء ابن أبي رباح يعكس الطريقة التي تلقى بها ابن جريج العلم
من أستاذه هذا. كما أن غلبة الرأي وكثرة الرواية عن ابن عباس و ندرة ورود الأسانيد
ربما تكون من خصائص أسلوب عطاء (في تدريس الفقه) أو حتى المدرسة المكية في الفقه
بشكل عام في بداية القرن الهجري الثاني. و على خلاف ذلك، فإن ندرة طرح الأسئلة
المباشرة من ابن جريج على ابن شهاب و الإشارة النادرة إلى السماع منه ربما تشكل أدلة
بالقرائن على أن ابن جريج لم يكن من الطلاب المنتظمين على الزهري. فهو ربما حصل
على بعض نصوص الزهري ليس عن طريق السماع و إنما عن طريق نسخ مصدر مكتوب أعطاه
الزهري إياه أو أعطاه أياه أحد تلامذة الزهري. وربما تكون غلبة الأحاديث على الرأي
في نقل ابن جريج عن الزهري وظهور رواة الأحاديث بشكل كبير، والدور البارز الذي
تلعبه فيها الأحاديث النبوية كمصدر للتشريع، من خصائص فقه الزهري أو المدرسة
الفقهية المدنية بشكل عام في هذه الفترة.
إن هذا
التفسير التاريخي في رأيي غير مستبعد بالإضافة إلى كونه يتمتع بخاصة إيجابية هامة
وهي أنه قابل لأن يخضع للتحقق والنقض العلميين. و على هذا الأساس فإنه ينبغي أن
نقبل --حتى يثبت العكس--أن النصوص التي يعزوها ابن جريج للزهري هي بالفعل مأخوذة
عنه.
إن هذا الاستنتاج
و فرضياتنا بخصوص كيفية حصول ابن جريج على مادته مبنية بشكل حصري على نصوص عبد
الرزاق الواردة في مصنفه.
وكنت قد
تركت إيراد المعلومات الخاصة بإبن جريج في كتب الطبقات للأسباب التي سبق شرحها*.
وهذا ما سنعمد الآن إلى علاجه\ أو تلافيه.
إن مولى
آل خالد بن أسيد من بني أمية، عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ولد عام ٨٠
\٦٩٩-- ربما في مكة-- وهي المدينة التي عاش وتربى فيها. بدأ ابن جريج دراسته عندما
كان في الخامسة عشر من العمر على يد عطاء بن أبي رباح، أهم علماء مكة في ذلك
الوقت. وقد تردد على حلق درسه لمدة ١٨ عاما و أنفصل عنه قبل وفاته بعام أو
عامين(توفي عطاء عام ١١٥\ ٧٧٣) للدراسة على العالم الأصغر عمرو بن دينار الذي حضر
دروسه لمدة سبع سنين. وربما يكون ابن جريج درس في هذه الفترة على علماء آخرين مثل
العالم المكي ابن أبي مليكة (ت ١١٧\٧٣٥ أو ١١٨\٧٣٦)، و العالم المدني نافع مولى
ابن عمر (ت ١١٨\٧٣٦ أو ١١٩\٧٣٧) الذي كان يقيم بين الفينة والأخرى في مكة. إن كل
هذه المعلومات التي نقل طلاب ابن جريج هي في الأغلب مبنية على أقواله هو.
توفي ابن جريج عام ١٥٠\٧٦٧.
ويشهد لهذه المعلومات التي
نقلنا عن كتب الطبقات هنا ما وجدناه حين درسنا نسبة ورود من روى عنهم ابن جريج في
نصوصه. ويعد ابن جريج من أوائل-- إن لم يكن أول-- من جمع كتب التراث (الحديث) على
شكل مصنف، أي رتبها حسب المواضيع الفقهية الواردة فيها. وربما يكون عنوان مصنفه
كتاب السنن. وقد حفظت معظم مادته فيما روى عنه عبد الرزاق في مصنفه. وقد ذاع صيت
عمله في حياته خارج مكة وربما يكون هذا ما حفز علماء آخرين كمعمر بن راشد، و سفيان
الثوري، و مالك بن أنس، على تصنيف كتب على شاكلته.
ويوصف
ابن جريج في كتب الطبقات بأنه فقيه مجيد، وقارئ و مفسر للقرآن. وقد جمع طلابه
كتابا سمي "كتاب التفسير" من دروسه في القرآن. ومع ذلك فإن تقييم نقاد
الحديث له مثار جدل. فبعض صغار معاصريه كمالك و تلميذه يحيى بن سعيد القطان أظهرا
تحفظا على بعض الأجزاء من مروياته. واعتراضهم الأساسي موجه إلى بعض الروايات التي
قبلها ابن جريج و التي بدأ ينظر إليها في نصف القرن الثاني وما بعده على أنها غير
كافية. غير أن روايته عن عطاء بن أبي رباح و عمرو بن دينار وابن أبي مليكة و نافع
و آخرين عادة ما تستثنى من التقييم السلبي لنقاد الحديث. وفي مراحل لاحقة انتقد
ابن جريج على عدم توضيح هذا النوع من الأسانيد في مصطلحاته لرواية الحديث. فعلى سبيل
المثال يرى النقاد أن ابن جريج عمد إلى نقل نصوص مكتوبة عن راوي أعطاه إيها، أو
كتبها هو من عنده واستأذن في روايتها دون أن يسمعها هو من الراوي أو يقرأها عليه،
وفي بعض الحالات تكون النقول عبارة عن نسخة نسخها ابن جريج من مجموعة من نصوص
كتبها أحد طلاب الراوية الذي يروي ابن جريج عنه. وهذا الأسلوب من الرواية كان
شائعا في النصف الأول من القرن الثاني ولم يكن قد تم التشنيع فيه بعد. وبهذا
الأسلوب حصل ابن جريج كما يقر هو على الأحاديث المنسوبة إلى الزهري. وهذه
المعلومات تتسق مع ما حصلنا عليه عند دراسة نصوص ابن جريج التي يروي عن الزهري.
فعلى خلاف نصوصه عن عطاء بن أبي رباح، فإن روايته عن الزهري تخلو من الأجوبة على
أسئلة يكون ابن جريج قد طرحها بنفسه ومن الإشارة إلى كونه سمع الزهري يقول كذا.
ومع ذلك فثمة إستثناءات كما يوضح ذلك المثال التالي:
حدثنا
عبد الرزاق الصنعاني عن ابن جريج قال: حدثني ابن شهاب عندما سألته عن رجل طلق
زوجته ثلاثا في وجع، ماهي؟ هل تعتد بعد موته وهل ترثه؟ قال: لقد أمر عثمان امرأة
عبد الرحمن بن عوف أن تعتد وورّثها منه. ورّثها بعد أن أكملت عدتها. وقد طال الوجع
بعبد الرحمن.
إن نصوصا
كهذا النص توضح أنه لا يمكن للمرء أن يعمم على أساس المعلومات البيبيوغرافية عن
كيفية حصول ابن جريج على أحاديثه من الزهري. وبالفعل فقد ذكر في بعض كتب
الطبقات أن ابن جريج قد التقى بالزهري وإن لم يكن من طلبته المنتظمين. وهذا ما لا
يمنع أن يكون ابن جريج سمع من الزهري أو سأله أحيانا ربما في فترات إقامة الزهري
في مكة بغرض الحج. وهو ما يفسر الأحايين التي تظهر فيها أجوبة على أسئلة لابن جريج
في روايته عن الزهري. فليس إذن من الحصيف إعتبار أن ابن جريج راوية وضّاع أو غير
موثوق به لمجرد أن ثمة حالات قليلة من التعارض بين المعلومات التي يصف بها طريقة
روايته و المعلومات البيبليوغرافية التي حفظت له. و على هذا فإن المؤرخ غير ملزم
بالإتفاق مع تحفظات نقاد الحديث حول رواية ابن جريج عن الزهري. فحتى لو كان ابن
جريج حصل على كل أحاديثه عن الزهري (وكلمة حديث هنا لا تشمل بالضرورة آراء الزهري)
مكتوبة دون أن يسمعها منه أو يقرأها عليه، فإن ذلك لا يعني بالضروة أن تعتبر
موضوعة أو غير موثوق فيها. إنما يعني فقط أنها لم تستوف المعايير الصارمة التي
وضعها نقاد الحديث المسلمين المتأخرين. فلو سمح للمؤرخين أن يستخدموا فقط المصادر
التي تستوفي هذه المعايير الصارمة، للزم أن نقرر أن غالبية المصادر التي يعتمد
عليها مؤرخو الإسلام الغربيين غير موثوق بها البتتة.
إن
دراستنا للأدلة المتعلقة برواية ابن جريج الموجودة في كتب الطبقات، تحيل في
مجموعها إلى صورة تشبه تلك التي ترتسم خطوطها العريضة على أساس تحليل نصوصه. وهذا
قد يقود إلى الإدعاء بأن المعلومات البيبليوغرافية في كتب الطبقات إنما أخذت عن
طريق النظر إلى نصوصه. غير أنه لا يوجد البتة ما يشهد لهذا الإدعاء-- وحدها
القوائم الطويلة لأساتذة و طلاب ابن جريج التي يجدها المرء في كتب الطبقات
المتأخرة، ككتاب تهذيب التهذيب لإبن حجر العسقلاني، قد تكون مستوحاة بشكل جزئي على
ذلك النسق.
ولذا
فنحن معذورون في القول، ليس فقط بناء على تحليل رواية ابن جريج وإنما على
المعلومات البيبليوغرافية الموجودة في كتب الطبقات، بأن رواية ابن جريج عن
الزهري صحيحة.
٤. مالك بن أنس كمصدر
لمراوي الزهري
إن رواية مالك بن أنس في
الموطأ هي أصغر ثلاث روايات لنصوص الزهري وإن لم تكن أقلها أهمية.
إن الموطأ بشكل مبسط مصنف
شبيه بمصنفات معمر وابن جريج، ولكنه يحتوي قدرا كبيرا من الشروح و الملاحظات. فلو
عمد المرء إلى دراسته على أساس المصادر التي يسند لها لخرج بالصورة التالية:
إن مالك يروي في أغلب
الأوقات عن ابن شهاب (٢١٪) وهو لهذا السبب يعد مصدره الرئيس.
وتلي الزهري على مسافة من
حيث الأهمية النصوص المنسوبة لنافع مولى ابن عمر ويحي بن سعيد الأنصاري بنسبة ١٤٪
لكل منهما. ويرد ذكر علماء آخرين مثل ربيع بن أبي عبد الرحمن، وعبد الرحمن بن
القاسم وهشام بن عروة وعبد الله بن أبي بكر بشكل أقل ( فيما يتراوح بين ٢ و ٤ ٪).
وكل هؤلاء العلماء من المدينة. وترد في موطأ مالك بالإضافة إلى هذه الكوكبة أسماء
أخرى تظهر بشكل متقطع.
ويلحظ المرء كذلك أن نسبة
الأحاديث المنسوبة إلى مجاهيل أكثر بشكل معتبر في مطأ الإمام مالك منها في نصوص
معمر أو ابن جريج(١٨٪).
ووفاءا للأسلوب الذي
اتبعناه حتى اللحظة فإنني اعتبرت أن هذا التوزيع اللافت للانتباه دليل ضد اتهام
مالك بفبركة أسانيده. (لأن هذا يثير تسائلات منطقية)
فلم يعمد مالك إلى هذا
التوزيع غير المنتظم إن أراد فعلا أن يخفي أو يزور مصادر ماروى ؟
ثم لم لم يختر العالم
الأسن و الأكبر نافعا مولى ابن عمر على الزهري ليكون مصدره الرئيس؟ ولم يذكر نافعا
فقط نفس عدد المرات التي يورد فيها ذكر يحيى بن سعيد، مع أن هذا الأخير يصغر نافعا
بجيل كامل؟ وأخيرا، ما تفسير كون مالك عجز عن تسمية رواة أعداد كبيرة من الأحاديث؟
زد على كل ما سبق أن
مقارنة بين النصوص التي يعزوها مالك إلى رواة مختلفين تعضد ما ذهبنا إليه هنا (من
أن روايته صحيحة).
و سأقتصر هنا للتدليل على هذا بمقارنة بين
النصوص المنسوبة للزهري و تلك المنسوبة إلى نافع. فالنصوص المنسوبة إلى ابن شهاب
تتكون في غالبها من أحاديث يكون الزهري فيها راويا فقط أو مصدر مالك لآراء فقهية
لعلماء سابقين (هذه الحالة تمثل ٦٣٪)، أما الأجزاء المتبقية، وهي معتبرة، فهي
تحتوي على آراء الزهري (٣٧٪). ويأخذ عدد ينيف قليلا على النصف من هذه الآراء شكل
أجوبة (responsa) على أسئلة طرحها مالك
على الزهري أو على شكل سماع. ولذا يبقى السؤال المطروح هو: هل روى مالك البقية
بشكل غير مباشر بواسطة راوٍ ثالث مجهول كما نلحظ في مثل الحديث التالي؟
حدثنا يحيى بن يحيى حدثني
مالك أنه بلغه أن سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار وابن شهاب كانوا يقولون.....
لكن هذا النوع من الإسناد
يوجد فقط في الإسناد الجمعي الذي يذكر فيه علماء آخرون مع ابن شهاب، وهذا النوع من
الإشارة من مالك عبر رواة غير مذكورين إلى آراء المدنيين ممن عاشوا في نهاية القرن
الأول يوجد بكثرة في رواية يحيى بن يحيى للموطأ. وعادة ما يأتي على هذا النسق:
يحيى بن يحيى حدثني مالك
أنه بلغه أن القاسم بن محمد........
إن أحاديث المجاهيل هذه في
الموطأ هي في العادة لا تأتي في الروايات التي يكون فيها الزهري الراوي الوحيد
وعليه فإننا يمكن أن نستخلص أن الحديث عن مجاهيل في الإسناد الجمعي، الذي
يذكر فيه ابن شهاب، فيه نوع من عدم الدقة،
راجع إلي الإختصار في الإسناد بدل القول:
يحيى بن يحيى حدثني مالك
عن ابن شهاب،أنه قال.... وأنه أيضا بلغه عن التابعين (فلان و فلان و فلان) أنهم
كانوا يقولون ....
إن هذا النوع من الاسناد
الأكثر تفصيلا و الأدق في الإسناد الجمعي نادرا مايعثر عليه في الموطأ. وعلى
هذا فإن نقل مالك غير المباشر عبر مجاهيل عن ابن شهاب في الإسناد الجمعي يجب أن لا
يعتبر إسنادا غير مباشر. إن هذه الأمثلة لا تدل على الإطلاق على أن مالكا
أخذ معظم روايته لآراء ابن شهاب عن مصادر سكت عن تسميتها. إن الرواية غير المباشرة
الحقيقة لا توجد في الموطأ إلا نادرا. وفي هذه الحالات يروي مالك عن الزهري عبر
شخص ثالث يذكره بالاسم. ثم حتى لو كانت حالات النقل غير المباشر هذه نادرة جدا فإن
مجرد وجودها يعني أننا لا يمكن أن نتهم مالكا بأنه يعزو عزوا مباشرا للزهري
كل نصوصه التي اطلع عليها حتى تلك التي لم يروها عنه، وأنه يعمد في الوقت ذاته إلى
تجاهل أسماء الأشخاص الذين سمعها منهم.
إن معظم الأحاديث و الآثار
في رواية مالك عن الزهري تعزي لجيل الصحابة، ونصف
ذلك القدر من الأحاديث فقط يعزى إلى الرسول صلى الله عليه و سلم، والعدد الأقل
منها ينسب للتابعين. وبشكل عام فإن النبي صلى الله عليه و سلم هو المصدر الوحيد
الأكثر ذكرا، ويرد ضعفي عدد المرات التي ترد فيها الإشارة إلى عمر بن الخطاب
وعثمان بن عفان اللذين يعتبران المصدرين المفضلين بالنسبة لابن شهاب من بين
صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم. و بين الأحاديث التي تعزى للصحابة تطغى
الأحاديث المسندة على التي تذكر بغير أسانيد، في حين أن نسب المسند وغير المسند من
الأحاديث النبوية متساوية. أما الأحاديث التي تعزى للتابعين فإنها في الغالب
منسوبة لمجاهيل: أي أنها تفتقر إلى أي إسناد.
إن هذه
الاستنتاجات تطرح العديد من الأسئلة أمام من يتبنون نظرية الوضع.
أولها هو التساؤل عن ما
الذي يجعل مالك ابن أنس-- وهو من يعزو في الأغلب عبر رواية ابن شهاب إلى الصحابة
أو النبي صلى الله عليه و سلم-- يلجأ إلى آراء الزهري على الإطلاق إن كان همه فعلا
هو أن يعزو آرائه الفقهية الخاصة بهتانا إلى مصادر أقدم و أكثر أهمية؟ وهل من
الحكمة أن نتصور مسبقا أن مالك اختلق أحاديث نبوية غير كاملة الإسناد( يسقط
من سلسلة إسنادها راو أو حتى راويان) وفي نفس الوقت إلى وضع أخرى مكتملة الأسانيد؟
إن رواية مالك عن نافع
تختلف اختلافا تاما عن روايته عن الزهري. فهي عموما لا تحتوي على أحاديث توثق رأي
نافع بل تكاد تكون كلها أحاديث رواها نافع عن آخرين. ويحتوي ثلثا هذه
الرواية على رأي أو عمل الصحابي عبد الله بن عمر. و البقية تعزى للنبي صلى الله
عليه و سلم، أو لزوجاته أو إلى صحابي مثل زيد بن ثابت، الذي في الأغلب ما يعزى
إليه في أمر يتعلق بفرد من أسرة عمر أو أسرة ابنه عبد الله.
و يروي نافع أساسا عن
مولاه ابن عمر، وبشكل نادر من زوجته صفية بنت أبي عبيد، أو من ابنه سالم أو أحد
أفراد الأسرة الآخرين.
ترجمة:
د. أحمد عبد الكافي ميلود
-->
تعليقات
إرسال تعليق