في الكفر والتكفير والحرية


١- الكفر اختيار و خذلان. و الإيمان اختيار و توفيق. كلا المصدرين عملان من أعمال القلوب. كبقية أعمال القلوب، تترجم الأقوال والأفعال ما غيّب منهما. 

٢-في بلاد غير بلاد الإسلام، أو في بلاد يختلط فيها الإسلام بغيره، يقبل من المرء حكمه على نفسه ما لم يظهر منه عمل لا يصح بحال تأويله لأمر غير الكفر، أوما لم يدفع هو عنه تهمة تأويله به. وفي بلاد الإسلام يعامل المرء على أساس أنه مسلم حتى يثبت العكس.

٣-الأقوال أهون تبينا في هذا المضمار، ولكن حتى في هذه يرجع إلى نفس الأسلوب و إلى نفس القدر من التحري و الصرامة. لأن الكلام مفردات و سياق، ومقاصد ومجاز. فدين يدرأ الحدود فيما هو أدنى بالشبهات كان من باب أولى أن يدرأ ما هو أربى بما هو أدنى. 

٤-هذا من حيث الإجراء و من حيث المنطلق لا يتتبع المسلم كلام الناس ولا يتصيد هفواتهم، فمن حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه. 

٥-من كفر فعليه كفره. وكما قال أحد الشيوخ المورتانيين لمن تكلم في رجل يدعى عبد الحي
تذكر أنك إن جئت إلى الحي فلن يسألك عن عبد الحي. أورد هذا ليس من باب الإرجاء ولكن من باب الوعي و التسليم بــ: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء." وهي من استشعار أن أساس الحكم في هذه المسألة أخروي، يدخل من أجله المرء مسرح الحياة فردا ويخرج منه فردا: ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعائكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون.

هذايختلف عن القول بأن "الآخرة مأزق فردي." الكثير ممن يقول هذا الكلام يرتكب عن وعي أو غير وعي مجموعة من الأخطاء منها: جهل حجم المأزق، ومن ثم الخلاصة التي ينبغي أن تنبني على الإعتراف بكونه أمرا فرديا. إن كون الآخرة مأزق فردي هو في الواقع ما يجعل من المنطقي الحديث عنها في الدنيا. لو كانت الآخرة معضلة للمجموع لعشنا الدنيا فرادى ولانتظرنا الآخرة وأجتمعنا على حلحلة مشاكلها في حين ما تحين
فلأنه لن يكون في وسع أي صاحب أن ينفع صاحبه و لا والد أن ينفع ولده، و لا حاكم أن ينفع من يحكمه، ولا مرؤوس أن يصوت لخلاص رئيسه، لأن الأمر كذلك، ففردانية مأزق يوم القيامة يفرض العمل الجمعي اليوم لأن الدنيا هي الفرصة الوحيدة للتعاون على مآزق يوم القيامة. فليس من الحكمة أو الحصافة أو المروءة أو من الأخلاق في شيئ أن تعرف أن المرء يحتاجك ثم لا تساعده حين يكون في وسعك فعل ذلك. بل ليس من هذه كلها في شيئ أن تكون بحاجة لعون الآخرين و سندهم لتتجاوز أمررا جللا، لن يكون بوسعهم أن يغنوا عنك منه شيئا لو عبرت حدا من الزمان، ثم تركت الساعات تمر حتى انقضى الوقت. إن هذه الحقيقة هي التي تطلبت من المؤمنين أن يكونوا أولياء بعض. والأولياء ساعون في مصالح بعضهم البعض متحالفون عليها، إن تكاسل أحدهم، أو خاف، أو شغله شاغل أو عرض له عارض، كان الآخر يقظا حاضرا، مستنهضا مذكرا. إنه حلف يهدف لإزالة العراقيل و المنغصات من الطريق

٦- في النقطة أعلاه يجب التمييز بين الاختياري الفردي، في سياق تكون فيه الجماعة عونا في الاختيار و سندا على الثبات، و بين الاختيار الفردي في نسق من الخذلان الجمعي. الأول هو أساس منظومة و فكر الإسلام، و الثاني مما استنبت الشيطان

الخلط بين الإثنين من مزالق زمن المغالطات الذي نعيشه

ينبغي أن نمسح من عقولنا فكرة أنه توجد مجتمعات أو سياقات ثقافية محايدة. وحدهم سكان المصحات العقلية من يصدقون كلاما من ذلك النوع. في كل مجتمع بل في كل جماعة و رفقة أثر وتأثير، يأتى قصدا أو عفوا. هذه مسألة معروفة لا تحتاج إلى براهين. وفي صيرورة الحياة لا يخلوا المرء من التأثر بعدة حلقات اجتماعية في حياته وهو تتعاوره صروف الزمن و تقلبات الحياة

من صغرى الحلقات إلى أكبرها يتدرج المرء ما بين الأهل، و الأصدقاء، المعلمين و المربين ثم الجيرة و المجتمع من وراء ذلك. من الصعب، وإن لم يكن من المستحيل، على المرء أن يرى حسنا ما يراه أهله و أقرانه سمجا، خصوصا إذا كان هذا الشيئ ذا أهمية محورية في حياة الإنسان.

طبعا ثمة عوامل نفسية و أخرى ثقافية تجب الإشارة إليها. 

++في مراحل المراهقة تكون النفس نزاعة إلى الثورة على الأنماط داخل الحلقة الأولى و لا سيما إذا لم تكن هناك علاقة متوطدة منذ وقت مبكر يكون فيها الأبوان أو أحدهما مثلا أعلى. وقد تظهر الثورة في نواحي و تختفي في أخرى، لأن المثل الأعلى ليس مسألة عامة بل فكرة قابلة للتجزيئ، فحتى المراهقون على ما بهم من ميل للتعميم لهم القدرة على التمييز بين الجوانب التي يبدع فيها آبائهم وأمهاتهم و تلك التي يرون لغيرهم فيها أثرة. 

على خلاف الثورة التي تطبع التعامل مع الوسط الضيق للفرد، يكون ثمة ميول إلى الإعجاب بالأصدقاء و رغبة في تحقيق الذات داخل قوالب التفكير وأنماط الممارسة الشائعة بينهم. يدخل في هذا اختيار الأزياء، و طرق الكلام، و التعامل مع الجنس الآخر، و تقييم الأبوين، و لكن يكون ذلك في هذه الحالة بطريقة جمعية (الشخص= طبقة الشباب، الأبوين = كبار الحي) تتيح للفرد ممارسة النقد بشكل غير مباشر عندما يحصل التماهي ما بين الفردي و الجمعي في الحلقة الموالية من الوسط الإجتماعي. 

++تعمل الرؤى السائدة والأفكار المنتشرة ، بأي وسيطة تواصل كانت، و الموجهة خصوصا إلى طبقة كهذه على تغذية وتمطيط هذا التوجه المؤقت، و تخلق أنماط التعبير التي تمتطيها هذه الأفكار أثرا كبيرا لا سيما في زمن ذابت فيه الحدود بين أبعاد التواصل الثلاثة الرئيسية (المرسل، أدات الإرسال، و جوهر الرسالة).

طبعا يمكن الإطناب في هذه النقاط ولكن الفكرة الأساسية هي أنه لا يوجد مجتمع محايد بالإطلاق و لا فرد حر بالإطلاق. و الحرية في أساسها هي مسؤولية البحث عن قيمة الحياة. و هذا البحث مسألة مصيرية و ملحة بالنسبة للإنسان، لأنه حتى لو تناسينا البعد الديني فإنه لا مفر من الاعتراف بفناء الإنسان و قصر المدة التي يعيشها. و الاعتراف بهذه ليس نهاية الطريق و لا أسوأ ما في الأمر. بل الأسوأ هو ما عبر عنه المتنبي بطريقته:
أشد الغم عندي في سرور — تيقن عنه صاحبه ارتحالا 

و عبر عنه غيره من مفكري الغرب بنثره:
إن شعور الإنسان بمرور الزمن لأهم تراجيديا كتبت عليه. 

ضف إلى هذا بعدا أخرى يزيد من إلحاح هذا المعنى الذي يتوجب ربطه بعمر الإنسان. هذا البعد هو كون الإنسان من بين الكثير من الحيوانات تحتاج رعايته إلى وقت طويل و إلى جهد متواصل في التربية و التثقيف. فعلى أكثر التوقعات تفائلا، و في أقل المجتمعات قدرة أو اكتراثا بسن العمالة، يقضي المرء خمس حياته الأول و خمسها الأخير عالة على الغير. فإذا لم يكن ثمة بعد آخر أكبر من مجرد وظائف الحياة التي يشترك فيها الإنسان مع غيره من الحيوانات، فإن حياة الإنسان تكون مكلفة وغير حصيفة من الناحية الاقتصادية البحتة. زد على هذا كون الإنسان وهب عقلا يميزه عن غيره، فبه، وبدون بعد آخر يمزه، لا يكون إلا حيوانا عالة عاقلا مُكلِفا.

ولهذه الأسباب مجتمعة فإن المجتمع مسؤول عن حماية الأفراد من التطرف الفكري، و الدفع بإن حرية الإنسان تتجاوز القيمة الجمعية للمجتمع على الإطلاق هي فكرة تحتاج إلى مراجعة.

٦ يجب أن نميز بين الحرية العقدية و التهجم على معتقدات الآخرين. كثير من الكفار و المشركين لا يعمدون إلى سب الرسول لأن ذلك ليس مفيدا و ليس متحضرا. و نفس الشيئ ينطبق على المسلمين. قلة من المسلمين يتخذون وردا في الصباح أو المساء يرتكز على لعن البابا أو غيره من القساوسة و الرهبان حول العالم.

٧ يمكن للمرء أن يكون مبدعا دون أن يكتب مسرحية من السب و اللعن. 
٨ يمكن للمرء أن يكفر و يتمتع بكفره دون أن يعلن ذلك على رؤوس الأشهاد
٩ ثمة طرق كثيرة مشرفة لتعلم شرع الله دون سب العلماء، ودون التشكيك في عملهم أو علمهم. 
١٠ ثمة فرق بين انتقاد العلماء وانتقاد المشروع و الثقافة و التاريخ و القيم التي يمثلها هؤلاء وانتقاد فتوى معينة، أو موقف معين لأحدهم. تتبع كل ما يتقول على العلماء أو يوضع باسمهم و نشره لتشويه سمعتهم، والسخرية من الأنماط و القوالب التي يصاغ فيها عادة الفكر الإسلامي، استخدام الصور النمطية للفقهاء أو الأتقياء أو الدعاة وجعلها أساسا للتندر و الاستهزاء لا يعبر عن تعظيم لشرع الله، و لا عن حب لورثة الأنبياء. كما أنه في حدوده الدنيا لا يعبر عن أخلاق إسلامية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"تحليل التراث الإسلامي"

هذا الذي جعل الألباب حائرة و صير العالم النحرير زنديقا