الشيخ عبد الله بن بية
الشيخ عبد الله بن بية كما سبق وأن ذكرت وكما يعرف القاصي قبل الداني من العلماء الموريتانين المميزين وقد نال شهرة معتبرة، قادته إليها السياسة في أول حياته، ثم الجمعيات العلمية التي أتيت به إليها كعالم مميز إشتهر بمنصب من السياسة.
لعبد الله بن بية كما هو واضح من إلقائه تأثر لا بأس به برافدين مهمين من روافد الفكر الإسلامي. الرافد الأول سلفي يفرضه عدم قدرة علماء و فقهاء اليوم على اغفال ما للقرآن و للسنة، أي ما للإحالة إليهما بشكل متكرر من أثر في نفوس الناس، و في قبول كلام المتكلمين، وهو نتاج جهود أقوام ينتقدون بن بية حينا و ينتقدهم هو أحيانا أخرى. ولا ينقم القوم على إبن بية إلا السياسية ولا ينقم هو عليهم إلا إياها. و التكييف السياسي لذلك الخلاف السياسي، بين متحدثين بإسم الإسلام، يحمل جدلا شرعيا، لكن الأساس السياسي للخلاف يجب أن لا يغفل
الرافد الثاني من روافد الفكر الإسلامي الذي تأثر به ابن بية هو الصوفية. وهو رافد لن ينجوا منه من تربى في موريتانيا ما قبل إنشاء الوكالة الموريتانية للأنباء و المركزين المصري و السوري، و السفارة الليبية، و المركز الثقافي الفرنسي، و قهوة التوانسة. كما لا يسلم منه من شاء له القدر أن تفصله الكثبان و الرمال عن مدينتي الرياح، والسياح.
الفكر الصوفي ليس وليد ثلاثية عقد الأشعر و فقه مالك و طريقة الجنيد السالك فحسب، بل هو أيضا ابن بيئة لم ينغص فيها الإتصال بالروح، احتدام الجدل بين الباحثين عن مسوغات المقاربات التي أدمنوها، ولا عن الحجج لبيان عقيدة حرموها، أو كتاب أنتبذوه وراء ظهرهم
كل الموريتانين صوفية لحد ما على هذا المستوى. وكل متعلم منهم شيخ مدرسة من التصوف، ما لم يكن قد تتلمذ على شيخ معين، وكثير هؤلاء
ثم يظهر من كلام بن بية ومن كتاباته بعد ثالث يتمثل في ميل عقلي تصبغه الصوفيته و تحده إجتهادات علماء العصور السابقة، يدفع هذا الميلَ العقلي ما يبدو أنه ثقافة واسعة من فلسفة عصر الأنوار، مفصولة عن فلسفات عصور الحداثة المتأخرة ومن باب أولى فكر ما بعد الحداثة
كقدر معتبر من العلماء الذين ينتقدون بن بية و ينتقدهم هو بطرق أكثر لباقة، استفاد ابن بية--و على الإستفادة تترتب تبعات حتى على المخلصين الزاهدين--من مراكز بحث ومراكز نفوذ فكرية و مالية تشكلت في عدد من الدول العربية، يمارس رجالها عملا متميزا ومهما للأمة في جانبيه الفكري و الثقافي لكنه يساهم على مستويات أخرى في اضفاء شرعية--يتفاوت وضوحها وخفائها حسب الفترات و طبيعة الأزمات--على نمط من الحكم العربي
و الواقع أن هذه الأزمة-- أي أزمة الأرتباط بمراكز تكون معتمدة في المال و النفوذ و في الوجود كهيئات على عطايا و منح ومزاج رجال سياسة-- أزمة مزمنة يعاني منها ليس فقط أمثال ابن بية ولا حتى نقاده بل كل أولئك الذين أرادوا الفقه حتى وإن كرهوا التسيس و خصوصا مساندة الظلمة أو السكوت على ظلمهم. فلقد تسب موت الأوقاف، التي تعرضت لهجمات عاصفة من النظم السياسية في العالم الإسلامي على طول القرن الماضي بل و حتى قبل بداية ذلك القرن، إلى حاجة العلماء للوقوف بباب السلاطين أو الوقوف على أبواب وكلائهم، أو وكلاء وكلائهم، ليس لكي يناقشوهم، ولكن ليضمنوا رزقفهم، سواء من الورِق أو الورق
إن ارتباط ابن بية و غيره من الموريتانين--بإستثناء الشيخ محمد سالم ولد عدود، الذي إرتبط بها إسما لا عيشا--بالمراكز و الجمعيات العلمية المشرقية أثر ليس فقط على نمط رأيتهم وتأوليهم لأنهم صاروا يرون الواقع من مراكز هادئة، ومن ثقافة اسلامية المظهر، مخمليةِ الملمس، استهلاكيةِ و مظهريةِ الجوهر، بل على طريقة كتابتهم.
من مظاهر هذا تغيير النظرة السائدة في المغرب عموما، و في موريتانيا خصوصا للكتابة على أنها مدخل للإبداع في التفكير إلى أخرى ترى أن الكتابة مجرد وسيلة لتوصيل الأفكار. وهذا ساهم في دفع الموريتانيين المرتبطين بهذا النوع من المؤسسات إلى التأليف، بأسلوب يزاوج بين جزالة اللغة التي تعلموها في الصغر و التبسيط وعدم الإستقصاء الذي يطبع المدرسة الشرقية. وهم مرض لم ينج منه منهم من جاء إلى المشرق من أقصى الغرب، بعد أن تربي في أقصى المغرب، فأصبحت كتاباته التي كانت تتميز بالإنتقاء الواسع من مصادر التراث إلى إنتقاء من تغريدات لا زبدة فيها
من مظاهر هذا تغيير النظرة السائدة في المغرب عموما، و في موريتانيا خصوصا للكتابة على أنها مدخل للإبداع في التفكير إلى أخرى ترى أن الكتابة مجرد وسيلة لتوصيل الأفكار. وهذا ساهم في دفع الموريتانيين المرتبطين بهذا النوع من المؤسسات إلى التأليف، بأسلوب يزاوج بين جزالة اللغة التي تعلموها في الصغر و التبسيط وعدم الإستقصاء الذي يطبع المدرسة الشرقية. وهم مرض لم ينج منه منهم من جاء إلى المشرق من أقصى الغرب، بعد أن تربي في أقصى المغرب، فأصبحت كتاباته التي كانت تتميز بالإنتقاء الواسع من مصادر التراث إلى إنتقاء من تغريدات لا زبدة فيها
وما خالط جوهر الكتابة خالط جوهر النظر في أمور الحكم، فقد جاء بمحافظة مزدوجة. في احدى كفتيها محافظة نُظُمِية تستغل في الفكر الإسلامي محافظته وزهده. فصار الفقه و الفقيه يحاوران الحياة وكأن الإنسان ولد ليأكل، ويخلو، ويلبس فيبلو، ويُضرب فيصفح، و يُظلم فيقبل التعنيف
وفي الكفة الثانية، نزعة عقلية مؤنسنة لا تركّز في التحليل على ما يجنيه الإنسان من اكتمال الأنسنة، بل على ما يتكبده في الطريق إلى ذلك الهدف. إنها إنسانية تجهد ذاتها لكي تحمي فيزيا المجتمعات، بمنع تفاعلاتها الكيميائية
إنها إنسانية ترى الشوك في الورود و تعمى أن ترى فوقها الندى إكليلا
يجمع ابن بية خصلتين جميلتين، من خصال حملة العلم، هما التواضع من غير توقف عن البحث، و حسن الاسترسال، على تباطئ في الحديث، يميزه عن المدرسة الموريتانية التي يسرع رجالها في الحديث حتى لا تكاد تفهم عنهم ما يقولون. وهم في الغالب يمارسون إعادة لماحفظ في البيت أو المحظرة، أو في المدرسة. كما يتمتع ابن بية بأدب جم و بعد كبير عن التطرف، في اللغة و في الفكر
وقد تمكن ابن بية بحكم إفاده من لغة و ثقافة الغرب، وبحكم وجوده في مراكز البحث المذكورة أعلاه من خلق علاقات صداقة واسعة مع شخصيات و هيئات عالمية استفادت من علمه الجم ومن هدوئه في رسم مقاربات فكرية مناسبة لثقافات من يعيش من المسلمين مراحل العصر المكي، و ما قبل الخروج من دار الأرقم بن أبي الأرقم.
وهي مقاربات كانت غائبة و مطلوبة بشكل ملح. إن كتاب بن بية في فقه الأقليات، وفر خلفية نظرية مقاصدية لتفاصيل ما ورد في كتاب الشيخ القرضاوي"الحلال و(صعوبة الوقوع في) الحرام" قبل ذلك بأمد. فهذا الكتاب قدم دفعا كبيرا وفتحا معتبرا للذميين المسلمين الذي يعيشون في الغرب بمقتضى حلف فضول حقوق الإنسان الذي تطبق معاييره بقدر معتبر من الإحترام مع بعض الإنتقائية على كل ساكنة بلاد الحرم الأرو-أمركية
وهي مقاربات كانت غائبة و مطلوبة بشكل ملح. إن كتاب بن بية في فقه الأقليات، وفر خلفية نظرية مقاصدية لتفاصيل ما ورد في كتاب الشيخ القرضاوي"الحلال و(صعوبة الوقوع في) الحرام" قبل ذلك بأمد. فهذا الكتاب قدم دفعا كبيرا وفتحا معتبرا للذميين المسلمين الذي يعيشون في الغرب بمقتضى حلف فضول حقوق الإنسان الذي تطبق معاييره بقدر معتبر من الإحترام مع بعض الإنتقائية على كل ساكنة بلاد الحرم الأرو-أمركية
ومع مرور الوقت أصبحت بلاد الحرمين السعودية التي كانت يوما ما المركز الذي طبعت منه كتب "الحرام و(استحالة وجود) الحلال"، وبلاد فكر الولاء و البراء، و التمايز و الخلاف، اليوم بحاجة إلى استدرار فقه الذمة الإسلامية الغربية لكي تعمم فلسفة الخضوع و التخفيف السياسية التي تطبعه، وتمييع و تطويع فلسفة البراء، لتصبح عنوانا للبراءة الفكرية
كقامات عملية معتبرة أخرى، قام ولد بية بتنزيل فكر الأقليات على ما تشهده البلاد الإسلامية من حالة تذمر من ثقافة الظلم التي يوفرها أصحابها كمظلة متقدمة من الحماية تبرر و تزين منظومة بلاد الحرم الأورو-أمريكية. هذه مظلمة تسعى إلى ديمومة التخلف، وإستمراية الظلم لكي تكون هناك دوما سعير يقابل الجنان القابعة وراء المحيطات، و لكي يكون ثمة وحوش يقابلون البشر الموجود في العالم المتحضر. بدون هذه المظلمة يكون التنافس بين عمّال و عمّال و أناس وأناس، وأحرار وأحرار، و ليس بين وحوش و بشر، و عبيد وسادة
مع منعرجات الأحداث الأخيرة، و في مرحلة ردة ما بعد إنقلاب مصر، بان عن هؤلاء موقف كانت بروقه لاحت بعيد مرحلة الربيع الأولى وخصوصا مع صعود الإخوان. طبعا في الأحوال الإعتيادية ليس بين ولد بية و الإخوان ثارات، بل وحتى وقت قريب كان شنآن أتباعه مقتصرا على السلفية الجديدة ورجالاتها الذين رأوا في عبد الله بن بية شخصية صوفية أكثر من اللازم. وهو موقف أتخذه طلابه الأنجليز و الأروبيون الناطقون بلغات أخرى مثل الشيخ حمزة يوسف، و غيره من من ذاع صيتهم و أنتشر ذكرهم في الغرب، فصاروا على عداء مع السلفية
من البدهي أن شيخا بحجم عد الله بن بية يكره الظلم و الطغيان، ويدرك ما يجره ذلك من الويلات و الخراب على الأمة. لكن ولد بيه و تلامذته يريدون أن يركز أفراد الأمة-- كل على حدة-- على الفرعون الذي يسكن في صدورهم بدل الفرعون الجاثم على رؤوسهم. ورغم مما لهذا الطرح من قيمة في تشخيص بعض أمراض الأمة في الوقت الحاضر وماله من مدلول تربوي على المدى البعيد، إلا أنه في الوقت الحالي يصب في مصلحة الفراعنة الجاثمين على الظهور و الرؤوس، لأن إنشغال الناس بترويض أنفسهم و هضهمها يريحهم من التعامل مع صياح الشعوب التي يركبون
طبعا كل من يعرف الشيخ ابن بية يعرف عنه كرهه الشديد للعنف والإقتتال و الثورة، لكن هذا الكره يبدو أنه فاض بتزامن أو تواز أو تناغم مع الموقف السعودي و الإماراتي من مسألة الربيع العربي. و الغريب ليس أن يرى ابن بية ولا غيره من العلماء المسلمين، بل من المسلمين العاديين أن الربيع العربي كان دمويا، وأنه قطّع الأرحام، وخرّب العمران. الغريب هو أنهم ينظرون فقط إلى ماضي الربيع العربي القريب، دون الرجوع إلى التراكم الذي أنتج حالة الإحتراب ودون الرجوع إلى العنف الذي تمارسه الأنظمة و الإقصاء الذي تتبناه ضد كل من لا يعجبها في الحاضر. إنها انتقائية لا ترى إلا عام ٢٠١١. وهذا لعمري نوع من الإختيار غريب، فمن لا يرى كيف ساهم الظلم و التغلب و القهر فيما فيه عالم العرب اليوم من التضعضع، ومن لا يرى إلا من خرجوا على هذا الظلم، لابد وأنه أخذ بمبادئ غير تقليدية من الفقه الإسلامي. فمطالبة الشعوب أن تكف عن طلب حقها وأن تترك لولاة أمور لم تخترها السعيَ في المصالح و المفاسد، خيرا و شرا، هو أمرأ يحتاج المرأ أن يتأمل بعده.
"إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ"
إن عبد الله بن بية ليس بالشخصية البسيطة و لذا فمن الوارد أنه يمتلك حلا لمعضلة ظلم الحكام العرب سيطلع عليها الجمهور لاحقا، ولا شك أنه على وعي بأن كلامه وكلام غيره يفهم منه تجاهل لظلم القتلة يفت في عضد مناوئيهم
وإلى أن يعلن الشيخ عبد الله بين بيه عن رؤية يكون فيها الإنصاف أساس الحكم، والعدل معيار الحكمة، و المآلات أساس الإجتهاد، و الحاضر لحظة تصحيح لا إعادة انتاج الأخطاء، سنظل نحترم بن بية و نختلف معه.
وإلى أن يعلن الشيخ عبد الله بين بيه عن رؤية يكون فيها الإنصاف أساس الحكم، والعدل معيار الحكمة، و المآلات أساس الإجتهاد، و الحاضر لحظة تصحيح لا إعادة انتاج الأخطاء، سنظل نحترم بن بية و نختلف معه.
أطال الله عمره ووفقنا وإياه للصواب
تعليقات
إرسال تعليق