كلمات عن لا اسلامية إسلاميي تركيا
البعض يذكرنا بأنه في تركيا لا يزال التغريب سيد الموقف، فأردغان لمّا يبح بعد تعدد الزوجات، ولاهو أغلق الخمّارات. و البعض الآخر يذكرنا أنه في تركيا توجد بيوت دعارة وأنها مشرعة، وأنها غربية الملامح، علمانية الهوى!
ولذا فما الذي يجعل أردغان إسلاميا؟ ثم يلمح البعض الآخر إلى أن عبد العزيز موريتانيا أكثر إسلامية منه!
١
أولا يجب أن لا نخلط الأمور. الجمهورية الإسلامية الموريتانية لا تشبه في تاريخها تاريخ تركيا و لم تعرف عنفا علمانيا كذلك الذي شهدته. و عليه فإن الحالة المورتانية غير قابلة للمقارنة. فعندما دخل الفرنسيون في موريتانيا قبلوا في أكثر الحالات، كنوع من السياسة، أن يلتزموا بأحكام القضاة التقليدين الذين لم يكن لهم حام أو نفوذ إلا القوة المعنوية للدين التي كان يذعن لها بر و فاجر أهل البلد.
ومن نعم الله على الموريتانيين أنه منذ أن حصل "الإستقلال" لم يحاول أحد أن يفرض على الناس علمنة من أي نوع. ولم يطل المقام بمن أراد تحويل المساجد إلى مخابز ولا بمن سخر من الحجاب.
قد نناقش في سياق آخر هل موريتانيا ذاتها علمانية الإسلام أم لا؟
٢
لكن عودة إلى تركيا يجب أن نفهم سياق التغيرات التي حصلت في تركيا و التي يريد البعض أن يقفز عليها.
قبل صعود مد الإسلاميين إلى تركيا... كان قارئ القرآن ومعلمه ينظر لهما بالدونية. بل وكانت مدارس القرآن محرمة. كان التدين سبة. كانت الصلوات في المساجد من شأن المرضى و المعاقيين.
٣
و بالمناسبة لقد كان هذا الحال بخصوص الصلاة ببعض النسبية في موريتانيا و الكثير من بلاد العرب في أواسط الستينات و حتى في السبعينات.
كان الشاب الذي يواظب على الصلاة ينظر له على أنه "متخذل!"
و السبب في هذه المهازل و العمى الحضاري راجع طبعا إلى أن بعض النخب العربية و التركية التي احتكت بالثقافة الغربية عانت من منسوب كبير من الدونية الحضارية مما نتج عنه إنبهار هائل جعل أحد المفكرين الأتراك يقول إنه لا وجود لعلم ولا حضارة و لا لتمدن ولا تطور إلا تحضر ومدنية و علم الغرب، وأنه لا يوجد طريق آخر.
كل هذا تغير بسبب جهود الإسلاميين. إلعنوهم كما يحلو لكم سواء في تركيا أو في موريتانيا أو في مصر أو في اليمن. إنهم ذات القوم. إلعنوا طابور الخيرين هذا، فإنما يراد الفتى كيما يضر و ينفعا.
عندما أقول ألعنوهم لا أعني من ينتقدون بصدق وبعمق، ولكن أعني من يتملكهم الغيظ ومن يخافون أن يتعاطفوا قينتقدوا لكي يقبل بهم غيرهم. إنني هنا أعني بالإسلاميين اطلاق الظاهرة، من رجال الصحوة إلى رجال السياسة، رغم كل ما شابها من الخطأ و التشظي.
٤
في تركيا قبل صعود مد الإسلاميين --الذي بدأ شعبيا ثم صعد إلى الرسمية عبر الإنتخابات رغم التضييق و القتل و السجن و غير ذلك من أنواع التمييز و الظلم (ظلم بلغ من تنكيله أن الأكاديمي الفرنسي كبيل ظن معه أن تجربة الإسلاميين في تركيا إنتهت)--كان المال و الجاه و النفوذ لمن يحاكون الغرب، لمن يمجدونه، لمن يعبدونه، لمن يدينون بدينه وبلادينه. كان الإهتمام بثقافة الإسلام، بل وثقافة العرب لأنها أتت مع الإسلام، أمرا معيبا. كانت تركيا قد وجهت وجهها، منذ صعود أتاتورك ورجاله الممسوخين غربا واجتثت نفسها من تاريخها ومن جغرافياها.
وفي هذا السياق يذكر خلدون سمان في كتابه (صراع الحداثات: تحدي الإسلاميين للقومية العربية و التركية و اليهودية) كيف أن تركيا أتاتورك محت من مظاهرها كل ما يمت إلى الشرق بصلة، فأزاحت القرآن و الحجاب و غيره، ولم يبق من مظاهر الإسلام إلا "زخارف الإسلام" ومعالم بدائية العرب التي تقدم كنوع من التسلية للسواح الغربيين و للأتراك العصريين.
وقد ألقى اتاتورك الخطاب بعد الخطاب عن ضرورة محاكاة الغرب حتى في أبسط و أخص الأمور، فقد حض على توحيد ملابس التركيين ببقية العالم المتحضر و يقصد بهذا الغرب طبعا، ناصا على البنطال،و القبعة الغربية
وقد عبر البعض عن هذا التوجه بعملة تحويل تركيا إلى ابن زنا
(The bastardization of Turkey)
كان اتاورك النرجسي المغرور قد قرر كما كتب في يومياته حتى قبل وصوله للحكم، أنه هو المثال الذي ينبغي أن يحتذي به الناس، في لبسه و في فكره و في فهمه:
"لو حصلت على السلطة فإنني سأنجز بضربة خاطفة الثورة المطلوبة في حياتنا الإجتماعية. لأنني، على خلاف الآخرين، لا أرى أن هذا الأمر يمكن أن يحصل بالرفع التدريجي لذكاء البقية حتى تصل إلى مستوى ذكائي. إن روحي تثور على هذا النوع من المقاربة. إذ لم بعد كل سنوات التعلم هذه، بعد دراسة الحضارة و التطور الإجتماعي وبعد أن أفنيت عمري ووقتي في اصطياد اللذة من الحرية، كيف بعد كل هذا لي أن أنزل إلى مستوى الناس العاديين؟ بل سأجعلهم يرتقون إلى مستواي. ينبغي أن لا أشبههم، بل هم من يجب أن يشبهوني!"
ولكي يشبه الناس اتاتورك أو حتى أساتذته، كان المجد و السؤدد، و الرقي و سمات النجابة، والمنعة، والقدوة من حظ السكيرين والعربيدين، والراقصات و المخنثين، تماما كما كان في مصر أيام عبد الناصر. كان كلام النخبة المثقفة مقتبسا من كلام الغربيين، هو هو، بغثه و سمينه، بسليم فكره و بسقيم شطحاته.
اليوم مازال لهؤلاء مكان في تركيا، وهذا أمر طبيعي، لكن صار لغيرهم ممن أجبروا على الخروج من الحلبة مكان فيها. صار بوسع التركي أن يرى نوعا آخر من الثقافة، ونوعا آخر من الرجال و النساء، قوم يمجدون الإسلام، ويصلّون في العلن، ويستشهدون بالقرآن، ظاهرهم القوة، واثقون، مقبلون غير مدبرين. بل وصار في وسع التركي أن يرى أن هؤلاء هم من يأتي بإسهم الناس إلى سدة الحكم. وأنه لأجل هؤلاء الناس تسن قوانين تسمح للمحجبات بالسير مرفوعات الرأس في شوارع بلاد كانت تتخطف فيها الأعين الجريئات منهن. لقد صار بوسعهن أن يدخلن أروقة ودهاليز الحكم وهن لسن أقل قيمة ولا أخف وزنا من الحاسرات عن الرؤوس المشمرات إلى ما فوق الركب.
٥
لسنا هنا في سياق تقييم ما يدخل على الظواهر من المظاهر و ما يغيب عنها من الجواهر. لكن تبقى للرموز كلماتها ومعانيها، التي لا يغفل عنها إلا الأغبياء و المكابرون. و الواقع أن الكثير من النقد و الكثير من محاولات طمس إسلامية إسلاميي تركيا هي من هذا القبيل. أي من قبيل المكابرة لكي تطمس الرموز التي تبرهن على إفلاس مادة علمن في سياق الحضارة الإسلامية. وهذه عقدة تتآكل بسببها أفئدة علماني العالم. لأن الإسلام دين يحصن عموم أهله من الغباء و الإستغباء.
٦
طبعا لم يقم اسلاميو، أو علمانيو تركيا المحافظون كما يحبذ البعض أن يسميهم بغلق الخمارات أو غلق بيوت الدعارة، لكنهم أتخذوا خطوات يعرف الخمارة و غيرهم أنها من باب إذا ضرب الإمام خاف المؤذن. ولقد خافوا وجاسوا خلال الديار يبغون الفتنة و الخلط على طول الصيف الماضي، ووقف من ورائهم كل إعلام الغرب وقدر كبير من ثعالب الأكاديمين فيه.
لم تزد حرارة الصيف الماضي قصة توسعة ميدان، ولا قطع أشجار وإنما قانون حظر بيع الخمر من العاشرة وحتى الصباح مع أنه لم يرتفع إلى سفق الحظر ولم يرق إلى تطلعات شرائح عريضة من أنصار أردغان. وقد لا يرتفع إليه في المستقبل المنظور، لأنه رغم الشعبية المعتبرة للإسلاميين في تركيا إلا أن الأغلبية المطلقة التي تتيح لهم تغيير الدستور لا تزال أمرا بعيدا، ومعظم المسائل المذكورة أعلاه تدخل في الجانب الشخصي الذي ينص عليه الدستور نصا خاصا، وعاما لا لبس فيه. ولذا فالخطوات التي أتخذت مررت على أساس أنها تدخل في صلاحيات الدولة للحفاظ على الأمن و السلامة العامين. وقد نوقشت هذه النقطة بشكل مستفيض في تركيا بعد صدور قرار حظر بيع الخمر غير المرخص بعد العاشرة ليلا وأعتمد كل طرف على إحصائيات محددة.
ومن المفارقة أن المدافعين عن الحكومة التركية رجعوا إلى إحصائيات المؤسسات الغربية التي ترى تركيا من أقل الدول الأوروبية استهلاكا للخمر بواقع معدل أقل من لترين للفرد سنويا وبإمتناع أكثر من ثمانين بالمائة من الإقتراب من الخمر. في المقابل أحتج أنصار المعارضة بأرقام هيئات احصائية محلية تقول أنه رغم أن الإدمان على الخمر ليس معضلة تركية، إلا أن أكثر من أربعين في المائة من المتدينين يشربونه، وحوالي عشرة بالمائة من المتدينين جدا يعاقرونه. أي أن المسألة ليست حتى مسألة رأي أغلبية، تماما كما ليست مسألة صحية حقيقية كما زعمت الحكومة.
ورغم ذلك مضت الحكومة قدما في حظر هذا البيع الخارج عن القانون فيما بعد العاشرة مساء.
وكان أردغان واضحا في رده على معارضيه في المرجعية التي ينطلق منها. فقد قال إن القوانين التي سنها رجلان (وفهم الجمهوريون الشعبويون من ذلك أنه يقصد أتاتورك وخليفته و هما الذان جسدت صورتاهما في إشهار شهير للخمر في البلد) يجب أن لا تكون أكثر أحتراما من تلك التي وضعها الشرع و أرادها الناس.
إن هذا التوجه و الذي لاحظته المعارضة العلمانية وتناقلت أصداء منه سربت من اجتماعات لحزب أردغان حث فيها على السعي على أن تعمل السلطات العمومية على محاربة القمار وعلى مراقبة السكن المختلط في الجامعات--والذي وصفه بأنه يتعارض مع الديموقراطية المحافظة لتركيا--يثير القلق لدى العلمانيين الأتراك و يرونه هجوما على علمانية البلد، لكن العلمانيين العرب يقرأونه على أنه علمانية، ويرون في الخيار التركي المتقدم في تعامله مع إكراهات بيئة غير البيئة العربية التي فشلت فيها مشاريع التغريب منذ اليوم الأول، أمرا عجز عنه الإسلامييون العرب.
إن سرد الخلافات بين المجتمع التركي، أو الدولة التركية و بين المجتمعات و الدول العربية الأخرى و بين إسلامييها وإسلامييهم لا يصلح أن يكون قاعدة للفصل في إسلامية هؤلاء و لا في غلو ألئك. إنها نفس الخلافات التي يمكن ذكرها و حشرها عندما نتكلم عن اختلافات المجتمعات العربية عن بعضها البعض وتمايز التجارب الإسلامية فيها تبعا لذلك.
إنها مسافة ذات حدين، حد خبرة التعالم مع الغير، وحد بعد المجتمع عن الأصول. وبين هذا وذاك تختلف المقاربات، و تتعدد الطرق، وبالطبع تتمايز الأخطاء.
وعلى كل حال فإن إسلاميي تركيا ربما يعلقون على تشكيك علماني العرب في اسلاميتهم بالقول:
"يا أم عثمان ما تلقى نجائبنا لو قست مصبحنا من حيث ممسانا"
تعليقات
إرسال تعليق