عباد الرحمن





في هذه الوقفة القصيرة، دعوة للتأمل سويا في آيات من الثمن الأخير من سورة الفرقان. هذه الآيات فيها وصف مطول لعباد الرحمن، وهي لذا حرية بالتدبر من كل الطامحين في الحصول على شرف العبودية لله، أي شرف الحرية. 

تبدأ آي الثمن بالحديث عن خلق السماء البديع وما بث فيها الرحمن من البروج، :"تبارك الذي جعل في السماء بروجا" مع ذكر خاص للكوكبين النيرين الضرورين لحياة أهل الأرض (جعل فيها سراجا و قمرا منيرا).

يسبق هذا الوصف موضع سجود، و يعقبه الحديث عن الليل و النهار كظاهرتين تمنحان بتعاقبهما فرصا من الوقت، من الفكر، و من الرقي "لمن أراد أن يذّكر أو أراد شكورا." طبعا ليس هذا الربط والتزاوج بين خلق السماء وما بها من جميل آيات الله وبين العبادة بأنواعها ذكرا، سجودا أو دعاء بالخاص بهذه الآيات، لأن القرآن نص مترابط متكامل يشرح بعضه بعضا. فقد ذكر في مواضع أخرى مثل قوله تعالى

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

و المتتبع لهذه الآية والآيات موضع الحديث يلحظ التشابه الدقيق بين صنفي العبادة: 

١-تفكر، و ذكر في أحوال القيام و القعود و الإضطجاع، ودعاء بالخلاص من النار في هاتين الآيتين من سورة آل عمران. 
٢-ذكر، سجود و قيام، ودعاء بالنجاة من النار في هذه الآيات من سورة الفرقان.
٣- وفي كلا المثالين ذكر الليل و النهار كآيتين ووعائين زمنين للذكر و الفكر.

إن هذا الإرتباط بين الفكر و العبادة التي تميز عباد الله عن بقية الخلق والنظر إلى خلق السماء وما بث الله فيها من الآيات مجال واسع للنظر.

فغالبية الناس تفكر لكن تفكيرها محصور بما تراه. و الكثير من الناس يعبد لكن عبادته مقتصرة على الأفعال التي يأتيها. أما عباد الله فعبادتهم فكر، وفكرهم عبادة.

أما غيرهم ممن يعبد فعبادته تقليد، ولا بأس بهذه. أما من يفكر من غير العُبّاد فتفكيره دروة في سجن المادة والحياة. 

و الظاهر و العلم عند الله أنه لما كان الإيمان امتحانا بأمر غيبي بقيت الأدلة الحاضرة --و أكثرها فتحا للأعين، و جذبا للأفئدة وتأثيرا في المدارك، و مخاطبة للخيال، الخلق المتناسق للسماوات-- عونا للإنسان على تذكر عظمة الخالق كلما شغلته الدنيا بمشاغلها في اليوم، أو رمته بمفاتنها وهمومها في الليل. ففي خلق السماوات تحد لأكبر مدركين يفتن فيهما الإنسان: حاسة البصر و قدرة التبصر. ففي النظر إلى خلق السماء  يفتر البصر، فتُشحذ البصيرة.

فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير.

و بالتأمل في خلق السماء يدفع عباد الله وحشة القلوب إذا نغّص صفائها، وضيّق انشراحها انشغال أهل الدنيا بكل ماهو حاضر وآن مما يكبر في النفوس من النظم و العقائد. وهذا متسق مع ما حكى الله من فعل عبده و خليله إبراهيم وهو ينظر إلى خلق السماء.

هذا أكبر…أي، هذا أرحب ميدانا لنفس الحر، و أرقى لروح العبد.
لكنه آفل… فضيقه الزمن إذ أبعده المدى وأكبره النظر. وهكذا تكون جولات صراع فكر العبد وحواسه.


بعد هذا المدخل تبدأ الآيات في ذكر عباد الله. أول وصف يقدمه القرآن لقارئه لهذه الطائفة ليس حديثا عن الإيمان أو المبادئ الفكرية لعباد الله. وإنما عن أسلوب الحياة. فالعبادة عمل. فبدل وصف نظرية ثابتة، تجدك تتابع صورة متحركة، تشاهد بدل أن تتخيل، و تقتدي بدل أن تسمع. "الذين يمشون على الأرض هونا".

لا حظ أن الوصف في التعيين (عباد) و في التعريف (يمشون) جاءا بصيغة الجمع. وفي هذه إشارة لطيفة إلى أن حياة عباد الله حياة جمعية، فالعبد لم يخلق لكي يعيش لوحده، ولو عاش لوحده بمقتضى آي الكتاب، لعاش حياة اجتماعية، لما حضه عليه الشرع من الإتصاف بالأخلاق، و السعي في العمارة.

ولكن دعنا نضرب الذكر صفحا عن هذه لما قد يشوبها من التكلف، و لنعد النظر إلى الصورة التي وضع القرآن أمامنا.

"يمشون،" لو كانوا ركبانا، لشغلك المركوب وهيئته عن الراكب وماهيته. ولو كانوا جلوسا أو مضطجعين لم يكن ثمة ما يميزهم عن غيرهم في هذه.

فأختار الله وهو العليم الخبير حالة المشي (مع استبعاد الحرفية واحتمال المجاز) ليخبر المتلقين هيئة مشيهم، فقال جل من قائل: هونا.

و الهون كباقي كلام العرب كلمة حبلى بالمعاني. فالهَون تشبه في الصيغة وقد تتحد في المعنى مع الهُون فتكون بمعنى الذلة و الإنكسار، وقد تأتي بمعنى اللين و الرفق و الخفة. كما أن الكلمة تصلح مصدرا مشتقا من هان الأمر بمعنى سهل، وخف حمله، على البدن أو النفس. 

قد يخطر ببال القارئ نوع من التضاد أو التعارض بين هذه المعاني ولا سيما بين الإنكسار و الرفق و الخفة، وهو ليس كذلك في الواقع، بل إن تعدد المعاني هنا هو ما يعطي المفردة عمقها الدلالي.

فعباد الرحمن، منكسرون أمام الله، لما استشعروا من عظمة خلقه، تفكرا وتدبرا، بل و إمتثالا أيضا لأمره الوارد في غير ما موضع من الكتاب. ولا شك أن العبد وهو يمشي على الأرض لابد وأن يتذكر الوصية الشهيرة، ولا تمش في الأرض مرحا…إلخ.

فمن هنا جاء الإنكسار. وجاء أيضا الهون بمفهوم الرفق و اللين مع الناس… 

ثم إن العبد لما استسلم للعبدوية، أصبح منسجما متناغما مع الكون، مع الكواكب في سيرها، ومع الذرات في دوراتها، ومع كل ما خلق الله، ولله يسجد من في السماوات و الأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال، 
   
تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا.

ولما انسجم العبد مع الكون، حفه الأمن وغشيته الرحمة، ونبض قلبه بالرضا، وبهذا كان هينا، لينا، هادئا، واثق الخطى، غير مستفِز ولا مستفَز، غير واجل ولا عاجل.
ولما كانت حاله هذه، كان كل فعله وقوله انعكاسا لهذا الأمان و السلم الداخلي.

وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما

ولو خاطبهم غير الجاهلين  لقالوا ما هو أجمل وأحسن، وألطف من السلام.

هذا فعلهم مع الجهال فما بالك لو خاطبهم المؤمنون العارفون العاملون.

و لورود الخطاب مدلول كبير. ومنه و العلم عند العليم الخبير، الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة، أن الخطاب على عكس الأفعال بالغ ونافذ. فأنت إن ابتعدت عن فعل ما أو غضضت بصرك عنه كان كأن لم يكن، لكن لا مفر من التعامل مع الخطاب. وليس لخطاب الجهال علاج أمضى أثرا، ولا أفصح وأقطع للحجة من السلام.

فإما أن يكون الجاهل أوغر صدره على العبد من غير معرفته، ففي هذه يكون السلام تبريدا لما وغر في صدره، وما حاك في نفسه مما أغراه به غيره. وإن كان جهله عن نقص في العلم بخلق أهل الإسلام رآه عيانا فربا أتعظ وغير ما بحاله.

صيغة السلام هنا نكرة، وهي لذلك ربما دالة على أنها قد تأتي بما يعني السلام دون أن تكون بنفس اللفظ أو حتى بنفس اللغة. فما كان باعثا على السلام، مبردا للغضب، داعيا إلى التعقل بأي لغة فهو سلام.

فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى!

و الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما

كأن المشي كان في اليوم، فكان مرئيا مشهودا من الناس، وكان علامة ودلالة على صورة حاصل، أو خلاصة تربية أخرجت للناس.

ولذلك فإن هذه الآيات تبدأ بعرض الصورة الكالمة للمنتج ثم تبدأ في تفصيل أركان الصورة، وطرق ومراحل الإنتاج.

فلكي يمشوا على الأرض هونا، في أمن وسلام وانسجام مع نظام الكون، كانوا قد روضت نفوسهم البشرية ترويضا خاصا.

وهكذا ننطلق بشكل عكسي من خلاصة الإنتاج إلى مراحله من آخرها إلى أولها.

آخر مراحل التربية التي تغرس الراحة في النفس، هي أعمال الليل.

يبيتون لربهم سجدا وقياما.

لا تستقيم عبادة العبد حتى يقوم الليل. فمن شغل ليله بالقيام و الركوع و السجود، صار نير الوجه، طيب النفس، منشرح الخاطر، هادئ الطبع. لأن قيام الليل هو أعلى وأسمى صور الإستسلام لناموس الكون.

فقيام الليل عبادة تضيق على الشيطان معها المداخل إلى النفس: فمن ابتعد عن الناس، وأنزوى عن الحياة ليفتح قلبه لله في وحدته ويسرج نور قلبه في ظلام ليله، كان معه الشيطان في حيرة. فلا وساوسه قويت بغياب الرقباء، ولاهو واجد لغياب الإنس جندا من الأولياء والحلفاء. 

ولما لقيام الليل من الأثر  العظيم في النفس، و النفع المشهود للجسم، كان لزاما أن نعرج على قوله تعالى، يبيتون. 

فلربما ظن ظان أن معنى هذا التعبير أنهم، أي عباد الرحمن، يصرفون كل الليل في العبادة، أو لربما ظن أن الأمر تغليب الجزيل على القليل. بمعنى أنهم يقومون معظم الليل، فأعتبر معظم الليل الليل كله.

لكن في كلا التفسيرين على ما أعتقد قصرا في النظر، وضعفا في الفقه، وجهلا بالمقاصد، وما ورد في الحديث الصحيح الشامل من الأمر بالتسديد و التقريب. 
و المعنى الذي يفهم من القرآن نفسه

أدنى من ثلثي الليل، ونصفه، وثلثه…إلخ

يدل على أن الإشارة لا تقتضي قيام الليل كله بل جزءا منه. وليس معنى هذا تغليب الأغلب على الأقل، وإلا للزم أن يكون أقل القيام أكثر من نصف الليل. لكن المتأتي، و الذي تشير إليه الأحاديث هو أن الله من عظيم فضله على المؤمنين يعد إلتزامهم بالفروض افناء للوقت في العبادة، وما زاد على ذلك كان من باب أولى مضافا إليه.

ففي حديث أبي الزناد، في الصحيح وفي الموطأ

تتعاقب\يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل و النهار يجتمعون في صلاة الفجر و العصر فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي؟ فيقولون تركناهم وهم يصلون وجئناهم وهم يصلون.

و في غيره من الأحاديث  الأخرى ما معناه أن من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلاهما معا في الجماعة كان كمن قام الليل كله.

فليس بوسع بشر أن يقوم الليل كله، ويحفظ بعد ذلك الفروض في اليوم، ويفي بمسؤولياته من أمور الدنيا.

وترتيب الأولويات أمر على المسلم أن يجتهد فيه.  

ومن أطرف ما قيل في ترتيب الأولويات ماذكر عن عبد الله بن مسعود، وأخاله ورد في تاريخ إبن عساكر، أنه قيل له إنا رأيناك أقل أصحاب رسول الله صوما. قال أي نعم. قالوا فما ذاك؟ قال إن الصوم يضعفني عن الصلاة و الصلاة أولى. 

و الذين يقولون ربنا أصرف عنا عذاب جنهم إن عذابها كان غراما

كان الدعاء الحافز على فضل العبادة، من القيام. وكانوا قد زكوا أنفسهم فعرفوا أن ما يستحق الدعاء هو الخلاص من عذاب يوم القيامة، لأن كل حاصل في الدنيا من نعيم أو عذاب فهو آفل زائل. فكانت القوة الدافعة وراء عبادتهم، يقين أن ما في الدنيا ليس أقصى الغاية وأنما في الآخرة يستحق كل نصب وتعب.

ولذا هان عليهم أن يبيتوا لربهم سجدا وقياما. حتى لوكان ذلك في أقل الليل و مما ليس في كله سجودا وصلاة. قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين.

والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما.


الإنفاق كان الخطوة السابقة، الممهدة، والحركة العملية لتقوية يقينهم بأن الأجر أجر الآخرة، وأنما في هذه الدنيا معبر ومعتبر. 

وموقفهم المتوسط بين الإسراف و الإقتار تعبير جلي عملي عن ما رسخ في النفس من عدم التركيز على الدنيا. لا على ملذاتها، فلم يسرفوا، ولا على الخوف من الفقر فيها فلم يقتروا. 

ولا يتأتى هذا الموقف إلا لمن قوي بالله يقينه وكان عليه معتمده.

والذين لا يدعون مع الله إله آخر.

وهذا فوق الإيمان الذي يحصل بالدخول في الإسلام، بل وحتى بمتوسط الإعتقاد في أن الأمر و المصير إلى الله. بل لا يدعون مع الله إله آخر، لأنهم بلغوا مستوى من التحرر من كل ربق الخوف، وحلق الهون، وملاجئ، ومراجع الدنيا. فما اطباهم المال، ولا تسلل إلى قلوبهم النفاق، ولا سحرت أعينهم أبهة الملوك، ولا هالتهم جنودهم ولا أعوانهم. 

وكم من أناس ظنوا أنهم آمنوا وهم يدعون مع الله آلهة كثيرة. إن أصابهم مرض، فزعوا إلى الناس، وإن مستهم الفاقة قرعوا بيوت أرباب المال، وإن كبا بهم زمن رأيتهم متذللين خاشعين. وكم منهم من إذا أعرض عنه الناس، أصابهم من الغم ما كأنهم به يعذبون عذاب يوم القيامة وهم أحياء. وكم منهم من إذا قيل لهم إن الناس قد جمعوا لكم زاغت الأبصار، ونسيت الأذكار، وهرعوا يبحثون عن ما بقي من أسباب الدنيا ليتوددوا بها. 

أما من لا يدعون مع الله إله آخر، فيزيدهم الكرب إيمانا و البأساء يقينا، و المرض صبرا، و الكرب أملا، وإعراض الناس لهفة إلى لقاء الله ومناجاته.

وليس معنى هذا أنهم لا يقدمون من أسباب الدنيا فيما أباح لهم خالقهم ما يدفعون به عن أنفسهم، لكنهم غير وجلين إن عودوا، وغير ورعين إن استنزلوا. خوفهم من الحرام، وضعفهم عن الظلم، وخورهم عند تنافس الناس في الحطام مما يلهي ولا يغني.


وهذا المستوى من الإيمان يستلزم أن يكون الراقون إليه قد تجنبوا كل الكبائر التي سيرد ذكرها في الآيات اللاحقات، أو قد غسلوا منها بالتوبة بحيث استنبتوا في القلوب عوض ما حاكته المعاصي من القساوة، لينا سقي بصدق العودة إلى الله.

فمن يدعوا الله وحده لا يمكن أن يقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق. 

ثم إنهم لا بد حافظون لفروجهم. 

ولايتقلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا يزنون...

إن الربط بين هذين الأمرين أمر مثير للفكر.


فالمرأ مهما كان حاله لابد وأن يرى أن القتل أمر مقيت، وجرم عظيم. لكنه حتى وإن رأى الزنا بغيضا، وإعتداء سافرا على الأعراض، وخورا أمام الشهوات، واستهانة بالتحريم، فإنه لا بد وأن يسأل لم جمع بين هذين. فالقتل لاشك أبشع من الزنا، و القتل ليس مما تدعوا له شهوة متأصلة بالفطرة، وليس مما يمكن أن يحصل بالتراضي، وليس مما يبقى لضحيته من بعده فسحة تعبد أو تستغفر فيها.

قد يكون في هذا إشارة إلى أن انتشار الزنا يقتل في النفوس الحياء و الحياء حياة الإنسانية في الجسم... ومن فقد الحياء كان جريئا على ما هو أعظم، وأخطر. ربما. لكن ربما في الأمر ما هو أخطر.

إن المتأمل لحال العالم و للتجربة يعرف أنه ما انتشر الزنا بين قوم إلا اقترن بقتل الأنفس. دعك مما تستيقظ لتسمعه في الأخبار من وضع رضيع في القمامة وهو حي، أو تقطيعه إلى قطع ورميه مع أكياس الزبالة، بل أصخ إلى الإحصائيات العالمية حول الإجهاض الذي تم في المصحات الرسمية.

ففي أمريكا لوحدها أجريت بين عام ١٩٧٣ وعام ٢٠١١ ما يربو على أربعة وخمسين مليون عملية اجهاض.

إن كتابة المسألة بتلك اللغة تخفي أنما حصل هو في الوقع قتل أربعة وخمسين مليون وخمس مائة ألف (٥٤٥٠٠٠٠٠) نفس لم ترتكب جرما.  

وفي فرنسا وهي الدولة التي توفر كل أدوات منع الحمل بحيث تصبح في متناول الرجال و النساء على حد سواء، بلغ عدد حالات الإجهاض (أو ما يسميه الفرنسيون التوقيف الإختياري لمسار الحمل) في عام ٢٠١٥ لوحده ٢٢٩٠٠٠ مائتين وتسمعة وعشرين ألف حالة--وهو ما يعادل بلغة الأخلاق، قتل ربع مليون نفس لم ترتكب جرما ولم تعاد أحدا.

فهل ثمة إرهاب أو إفساد فوق هذا! 

وليت هؤلاء كانوا القتلى الوحدين للزنى، فكم هم أولئك الذين أورثهم الزنا بيوتا إنعدمت فيها الرحمة و الخير، بل وإنعدم فيها الأب وأختفت منها الأم.

يورد إبن كثير في تفسيره على هذه الآية فيما يورد هذا الحديث.

قال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا عمار بن نصر ، حدثنا بقية ، عن أبي بكر بن أبي مريم ، عن الهيثم بن مالك الطائيعن النبي صلى الله عليه وسلم : قال 
" ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له"

فليحذر المسلمون أن يسيروا في هذا الطريق.  فهو طريق أعوج، موحش، لاخير فيه.

إلا من تاب. 

أي أنصرف عن ما كان فيه إلى ما أمر به، فأشاح بوجهه عن الحرام، وأستقبل به طاعة الله.

وآمن، وعمل صالحا.

في هذه إشارة إلى ما ورد في الحديث من أن مرتكب بعض الكبائر يكون حين ارتكابها فاقدا للإيمان. وإنما يعود إليه إن عاد إليه رشده، وأناب. ولذا كان لابد بعد المعصية من تجديد الإيمان.

والعمل الصالح دليل على تغيير الوجهة، واستبدال التجارة.

إن الحسنات يذهبن السيئات، الفمعصية، تفسد صفاء النفس، وتضعف قدرات الجسم، وتشوش بوصلة الأخلاق، ولذا فلا بد لها من تنظيف.

ولإن كان الشيخ محمد ولد سيد يحي قال في تفسير الآية أعلاه أن الحسنات يذهبن السيئات ويذهبن معهن ولا يبقى لفاعل الخير إلا ما زاد به على ما عصى، فإن الشيخ وإن قال هذا تحذيرا من شؤم السيئات وتشجيعا على الإكثار من الخير، فالواضح أن الحسنات تتضاعف ولا تتضاعف السيئات. وهذا من لطف الله وجزيل فضله على الناس. 

بل إن من عمل الخير وراء السوء، لاسيما بالإقلاع عن ذنب تجرأ عليه المرأ، ففقد بفعله الوازع الفطري الناهي عن معاقرته الشر، فإن في الإقلاع عنه، وصرف الرغبة في إتيانه إلى عمل خير، جهاد عظيم، ودليل صدق.

ولذلك كان الجزاء عظيما: يبدل الله سيئاتهم حسنات.

و الذين لا يشهدون الزور. 

ذكر الزنا بين القتل وشهادة الزور، وكلاهما من الموبقات، فدل على قرب نسبه منهما.

ففي الحديث ألا أنبئكم بأكبر الكبائر. قالوا بلى يارسول الله! قال الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس.
وقال ألا وشاهدة الزور ألا وقول الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت!

وفي الحديث لا يزال المرأ أو العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما. 

فمن ابتعد عن الزور، وشهادته، سلم من الزنا وطرقه، ومن إبتعد عن الزنا وسبيله كان عن موجبات قتل الأنفس عزيبا، ومن سفك الدماء بعيدا. و الحق أنه لا يتأتى الإبتعاد عن الزور وشهادته إلا بالتقليل من اللغو.

وإذا مروا باللغو مروا كرما.

فمن خاض في لجج اللغو كذب

ولا شيئ أكثر عونا على الإبتعاد عن هذه إلا فتح الآذان و العقول لكلام الله، وأمره.
والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا.

والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا…

تلك لبنات الحياة الدنيا التي يستعان بها على العمل الأخروي. فلا بد للإنسان من أهل يستريح إليهم، وذرية يتشرف بدعوتهم للخير وتنشأتهم على الإسلام، وتدريبهم على بذل الجهد في طاعة الله حتى إذا غادر الدنيا كانت أعمالهم صندوق إدخار له، ودعواتهم له مطرا يسقيه في قبره، ويظله يوم حشره، ويشفع له يوم عرضه.

لهذا كانت دعوة الرسل أن يقولوا: وأجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك…
ولهذا كان حرصهم أن يبقى أبنائهم على ملة الإسلام. فكان سؤالهم الطبيعي لذريتهم.

ما تعبدون من بعدي؟

ثم كانت وصيتهم: إن الله أصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون.

من كان هذا أدنى درجاته يتسلق في المعالي ليصبح عبدا لله يبيت لربه ساجدا قائما، يمشي على الأرض هونا، ينشر السلام، والرفق و الخير، ومن كان هذا حاله، فإن له جزاء خاصا.

يجزون الغرفة بما صبروا. 

ولا شك أن من سار في هذا الدرب لا يبلغ مراده منه إلا بالصبر.

وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.

وإن الله مع الصابرين. ومن كان في معية الله، كان في نعيم، وملك كبير. 

يلقون فيها تحية وسلاما.

هل جزاء الإحسان إلا الإحسان، وهل تجني من العنب الشوك؟ 

كانوا في الدنيا سلاما للناس، فملأ الله حياتهم بالسلام في الدنيا وحياهم بالسلام في الآخرة.

ومن حياه السلام جل وعلى بالسلام، فقد فاز فوزا عظيما.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"تحليل التراث الإسلامي"

هذا الذي جعل الألباب حائرة و صير العالم النحرير زنديقا