كلمات حول محاضرة لتشومسكي عن الوضع في مصر
تابعت قبل أيام محاضرة للعالم الأمريكي نعوم تشومسكي ركزت على الموضوع المصري. لفتت إنتباهي عدة مسائل وردت في صلب المحاضرة و كذلك في فترة الأسئلة و الأجوبة التي أعقبتها
أولا، لفت إنتباهي مع أنني لم أستغرب حقيقة، كون العالم أبدى بعض العتب و الإستغراب من من سماهم أصدقائه المصريين الذين قابلوا الإنقلاب بالترحاب و مازالوا يدعمونه رغم كل العنف الذي أرتكبه العسكر. طبعا هذه مسألة لا مناص لعاقل من التعجب منها. إن أناسا إضطهدهم العسكر لعقود من الزمن يصعب على الأمر تصور مساندتهم لحكمه.
طبعا تشومسكي يرى أن الكثير من "أصدقائه الجيدين" يختلفون معه في هذا الطرح و يرى أنهم مخطؤون في تقديرهم. و رغم إنتقاده لحكم مرسي فهو يرى أن الإطاحة به لم تكن الخيار الأوحد وأنه كانت ثمة بدائل أكثر تحضرا لمعارضته و لتغيير الحكم و الضغط من أجل رفع سقف الحريات و إستفادة الفقراء. ثم رأى أن مسألة إستدعاء العسكر كانت ذنبا جسيما
في ثنايا الخطاب تحدث تشومسكي-- ذو الميول اللبرالية اليسارية، و المعارض الشديد للهيمنة الأمريكية و السياسات الأمريكية الكولونيالية، و المعارض أيضا لليمين بحكم ميوله الأديولوجية--عن كون مرسي لم يغير من السياسات الإقتصادية في شيئ و أنه رغم أن الأمريكيين لم يأتوا به لسدة الحكم أو يدعموا الإنقلاب عليه، فإنهم كانوا راضين عن أدائه الإقتصادي لأنه لم يحد عن التوجهات النيولبرالية في الحكم و التسيير. هذه نقطة نختلف أو نتفق فيها مع شومسكي لا يهم، لكنها في جوهرها سليمة على الأقل من حيث أن السياسات الإقتصادية لم تشهد تعديلا يذكر، وعموما الإسلامييون ليس لديهم موقف فكري مسبق من التخطيط الإقتصادي بشكله الكلي و عموميات خطابهم الفكري يبدو أنها تركز على طريقة معاملة الآثار الإقتصادية، و لجم التوجهات الإحتكارية التي عادت ما تصحب لبرلة السوق، ولم يمكث الإسلامييون بعد في الحكم لنحكم على الميكانزمات التي كانوا سيتبعونها و مدى كفائتها، وخصوصا ما إن كان تحصيل و توزيع الزكاة سيكون أحد روافد الإقتصاد و إعادة توزيع الثروة، وما إذا كانت الدولة ستلعب دور المحايد في صراع رجال المال، أو دور الشريك، أو دور الموجه و المدافع عن الطبقات غير القادرة على المنافسة و حتى تلك التي لا تملك رأس المال السائل، أو التقني، أو الخبرة، بل ومن سيبقون على هامش كل هؤلاء
كون الإسلاميين لم يلبثوا في الحكم هي مسألة تترتب عليها أشياء كثيرة على مستوى العمل الأكاديمي و كذلك على مستوى صراع الأفكار في العالم العربي. لأن إغتصاب الحكم منهم يحرم المجتمعات من تجربة التعامل معهم في سدة الحكم ومن ثم يطيل حراك التييه الفكري في العالم العربي، و يقتل المراجعات الفكرية و المقاربات العملية بناء على أسس من الممارسة وليس من باب موائمات المظلومين و تكييفاتهم، وهي رغم ما لها من أهمية تفتقد إلى الحوار الحر مع الواقع وبالتالي بناء قناعات راسخة و السعي إلى الإبداع في الإستراتيجيات بدل الإستماتة في التكتيكات
طبعا لكل هذا أثر سيئ على منافسي الإسلاميين لأنهم إما أن يقفوا على الحياد، فيصبحوا في حكم الغائب، أو يبرروا الظلم الواقع عليهم و يدخلوا ليس فقط في ردة فكرية، فهذه أهون الشرور، بل في ردة عملية لا تترك للتفكير محلا. وقد يعمد البعض إلى أخذ العصى من الوسط فيساندهم أول النهار و يلعنهم آخره خشية أن يذوب في ذروة صراعهم مع من يغتصبون الحكم. ويترتب على ذلك ما يترتب عليه من عدم إقناع المحايدين وعدم إرضاء طرفي الصراعي
طبعا لا يمكن الحكم على الشكل النهائي لما كان سيكون عليه حكم الإسلاميين في مصر سلبا أو إيجابا لعدة أمور
١-كونهم أتوا إلى الحكم في أول مراحل التغيير في العالم العربي، يجعلهم في مواجهة منظومة من الفساد، و وضع إجتماعي و إقتصادي صعب، و فوق كل ذلك التعامل مع البيروقراطيات السيئة التي تمسك بكل مفاصل هذا البلد. ولذا فإن المحك الأساسي لحكمهم من الناحية العملية كان ينبغي أن يكون في خلق مؤسسات سياسية منتخبة تعبر بشكل أو بآخر عن نوع من الشرعية المستقاة من الأمة، أو الشعب إن شئتم. معالجة الإقتصاد، تتطلب جهودا أخرى، بل و هذا الأهم، وجود هذه المؤسسات و إستقرارها و الوقت الكافي لكي تتم إعادة توجيه الهياكل المحلية للإقتصاد نحو نموذج بديل عن النظام الإقتصادي الإستعماري القائم، سواء كان إشتراكيا في بعض جزئياته أو لبراليا في كلها.
٢- إعادة ثقة الناس في العمل المؤسسي، وغياب هذا أكبر الكوارث التي تحل بالعالم العربي اليوم
٣- التحقيق في جرائم الماضي و التعرف على حيثياتها و مرتكبيها و التعامل معهم بما يتفق عليه الشعب، عفوا أو عقابا، أو غير ذلك. وهذا في غاية الأهمية
٤- السرد غير الإنتقائي المدعوم بالأدلة لتاريخ إجرام الدولة في حق المصالح الوطنية في علاقتها بالغير و في علاقتها بالإقتصاد المحلي. فمن لا يعرف ماضيه و عيوبه لا يمكن أن يصلحه. وما دام الحكام لا يخشون من كشف الحقائق، فإن الكذب وإخفاء الأدلة سيكون الدرع التي يحتمي بها كل دكتاتور فاسد
عودة إلى كلام تشومسكي يمكن للمرأ أن يعلق وإن بشيئ من التسرع على حكمه على توجهات مرسي بأنها سليمة في الوصف خاطئة في التشخيص، لا تعبر عن عمق رأي أو تحليل
لكن في ثنايا كلام تشومسكي ما هو أهم، وهو أنه كانت ثمة بدائل حتى لمن يرون أن الإخوان أسوأ الأسوأ، كانت ثمة إنتخابات برلمانية قادمة و كان بوسع من رأى أنهم الأغلبية العلمانية أن يفوزوا فيها لو توحدوا، و بالتالي تغيير الخارطة السياسية أو على أقل تقدير تعديلها. هنا يكمن نقد تشومسكي للعلمانيين المصريين: إنهم غير قادريين على التوحد ويعانون من صراعات و إنقسامات مزمنة. ولذا فبمقدور الإخوان سحقهم في كل إنتخاب حر ونزيه
تشومسكي له نكتة في هذا السياق من فترة سابقة قضاها في مصر
النكتة هي أن أحد أصدقائه الجيديين من اللبراليين اليسارين (في أمريكا لا تناقض) المصريين (لا داعي لذكر إسمه) كان دائما يحدثه في السياسة و عن طرق التغيير في مصر، وكانا أي تشومسكي و اليساري الجيد--و بالنسبة لتومسكي تقترن الصفتان و ربما لا تتفرقان و هذا أساس هذا التعليق--يذهبان لتناول غداء فاخر--أو عشاء فاخر على متن زوق على النيل لأحد أثرياء مصر و هناك يلتقي بالرفقاء. بعيدا عن العشاءات الفاخرة المترتبة على تزاوج بين النخب الفكرية و المالية لمصر، حصل أن إلتقى تشومسكي بفريق آخر من المثقفين، ممن قالوا له أنهم جزء من العمل الإسلامي. يعلق تومسكي ساخرا أن هؤلاء لم يكونوا في الجوهر إسلاميين إلا بقدر ما يكون هو إسلاميا. أحدهم قبطي و أخر شيوعي سابق على الأقل. المهم أن هؤلاء الإسلاميين لا يضيعون الوقت في العشاءات الفاخرة في باخرة في خلوة بل يخططون لمساعدات العشوائيات و يعملون في وسط أهلها من أجل ذلك. لا غرابة أن يفوز هؤلاء و يخسر أولئك
ثمة الشيئ الكثير الذي يمكن أن يعقب به على هذا الكلام وفي الواقع كان هدفي من كتابة هذه الأسطر لكن الحديث أخذني في متاهات أخرى و ها هو ذا ضيق الوقت يمنعني من التفصيل في هذا
لي ملاحظات هي بكل إختصار
أو لا ملاحظة أنه في كلام العالم، السياسي، و المفكر الكبير، تبدوا كلمة "صديق جيد،" أو شخص جيد، في الغالب بل في الحصر لوصف اليساريين، و لا تذكر على ذكر الإسلاميين و كأن ثمة تناقضا بين هذه. أي أن الإسلامي و الجودة، و الطيبة، لا يجتمعان
ثانيا: أن جودة\طيبة اليساري هنا مقتصرة على الفكر لا على العمل، رغم أنه تشومسكي ذكر تاريخ الرجل في السجن أيام عبد الناصر...هذا أمر لا يبدو أنه يشغل تشومسكي
ثالثا: أن السخرية من وجود قبطي و شيوعيي سابق في السياق العملي للإسلاميي هفوة لا أعرف حقيقة مغزاها. فهم إما إقتنعوا بفكر الإسلاميين أو قُبلوا على ماهم عليه من الفكر و كلا الأمرين مفخرة لحملة أي فكر. فكان من الوراد ربما أن يعرج تشومسكي على تلك النقطة ببعض الشرح
رابعا و أخيرا: أنه رغم ما للإسلاميين من قصور في بعض الجوانب ليس هذا محل تفصيلها، إلا أنهم يعبرون عن حراك شعبي حقيقي لتغيير للواقع المعيش في العالم العربي هم جزء من هذا الحراك و ليسوا كله، و لذا على الآخرين الإعتراف بهم و التعاون معه، و عليهم هم أن يكونوا أكثر مرونة في التعامل مع هذا الآخر الراغب بتطورير المجتمعات حتى بما يخالف فكرهم، دون أن يتناقض معه، فسير النقيضين معا هو من باب الإختزال لا من باب التعاون. في السياسة هذا ممكن، لكنه يحصل في العلن و يحصل بالعنف غالبا
تعليقات
إرسال تعليق