المغاضبون و المبالغون في تأبين مندلا


لا حظت في الأيام الماضية جدلا و نقاشا محتدما في بعض الحالات بخصوص تأبين المناضل الكبير نونس منديلا. جرى في هذه النقاشات الحديث عن الواجب و المحرم و المكروه، و رمى الناس بعضهم البعض بالتخلف، و الرجعية، و التغرب و الأفرقة، و غير ذلك من الألقاب التي تعمد إلى تمزيق نسيج المجتمع المتعلم دون أن تقدم فكرا أو تدفع جهلا.

ورغم أني قلت ما أريت في مندلا بلغة العرب و لغة العجم من الإنجليز، فإنني سأضيف هنا بعض الملاحظات. سأبدأ من أول الدرج، وأعدكم أنني لن آخذ السلم معي إلى أعلى. 

أولا تماما كما حصل حين مات شافيز--رغم أوجه الإختلاف بين الرجلين--فإن معظم المتحاورين لم يكونوا يأبنون مندلا بقدر ما كانوا يخاصمون بعضهم. ولذا لم تكن الأحكام الشرعية في معظم الحالات إلا يافطة تختفي ورائها الخصامات الأيدولوجية. لم تكن الإعتبارات الشرعية تحكم أفعال المدافعين عن الشرع في معظم الوقت (و إن كان يحسب لمعظمهم إن لم يكن لكلهم صدق لهجة بعضهم)، كما لم تكن الإنسانية تطبع ردود من أدعوها منطلقا. نهش هنا و نبش هناك. 

الأسباب طبعا معروفة. النخب و غير النخب عندنا لم تتعود على أسلوب راق في الحوار، كما أنها شأنها شأن النخب العربية لم تتعلم أن الإختلاف ليس هدفا، ولا مطلبا ولا هو المحك الوحيد لرقي الفكر. وهذه نقطة جوهرية. فالكثير من العرب من كثرة الهجائيات على ما يسمى التقليد أصبح يظن أن الإختلاف مع ما يقال أو ما يتواضع عليه هو تحرر فكري و إبداع، وأن الموافقة تعطيل لنعمة العقل، و جري أعمى وراء التخلف و الرجعية.

وهذه اللوثة لم يسلم منها حتى المتكلمون بإسم التراث و المدافعون عنه. فمثلا في قصة مندلا، حين كتب البعض عن هذه الشخصية العاليمة ترى البعض يعمد مباشرة إما إلى ١) التذكير بأن ثمة شخصيات إسلامية تستحق أكثر من هذا، و ٢) بأن هذا الرجل غير مسلم، بل إن البعض عمد إلى نشر بعض التقارير المزورة عن كره مندلا للإسلام. لا يوجود ما هو أبعد من الحقيقة وأشد ظلما لتركة الرجل النضالية من هذا.

طيب أتفهم أن بعضكم لا يريد أن يأبن مندلا ربما ليس بغضا في مندلا و إنما لأن الكثيرين يقومون بذلك العمل، أو لأن ثمة من هم أولى بالبكاء في زمن المصائب هذا--لا جئوا سوريا، قتلى العراق، ديموقراطية مصر الضائعة و مجازر العسكر التي يرتكبونها في حق معارضيهم. ثم ثمة ماهو أسوأ كون قضية المسلمين و العرب الأولى لم تعد القضية الأولى، أو الثاثية أو حتى قضية أصلا. في مصر يقتل الفلسطينيون، و في فلسطين يحاصرون و يجوعون. وعلى الملأ تجد البعض بما فيهم أحد المغتربين الموريتانيين يقول بملأ فيه أننا--وأعتقد أنه يقصد المسلمين أو الموريتانيين--لن نخسر شيئا لو أبيد الفسلطينيون عن بكرة أبيهم. دعك من كون هذه اللغة لا تمت إلى الإنسانية بصلة، فهي أيضا، وهذا ليس مفاجأة، لا تمت إلى الإسلام بصلة. أفهم قدر هذه المصائب، لكن ثمة ما لا أفهم. 

في هذا الحال أتفهم أنكم أنتم لستم راغبين في تأبين مندلا، وأنتم ربما محقون. لكن ثمة من أراد أن يخالفكم إلى ذلك. طيب ما العمل إذا؟

هل نشارك هؤلاء في تأبينه؟ ربما؟ و لكن لسنا مرغمين. 

هل نعاتبهم على ذلك؟ لماذا؟ وما ذا نجني من عمل من هذا القبيل؟ 

الجواب طبعا لا شيئ. 

من المفيد أن نتذكر أن الرجل لم يساهم في مصائب الأمة ولم يعرف عنه التشفي فيها. من المفيد التذكير أن الرجل قاوم الظلم، وأنه قضى جزءا معتبرا من عمره في السجن. من المهم التذكير أن أعدائه بالأمس هم أعداء الأمة اليوم، حتى وإن أظهروا له الود بعد النجاح و التباكي عليه بعد الممات. من المهم التذكير بأنه عندما صعد مندلا للحكم توقف التعاون النووي الإسرائلي الجنوب أفريقي، ومن أوجه التعاون بين جنوب إفريقا و إسرائيل دفن النفايات النووية الإسرائيلية. صحيح أن توقف هذا التعاون خلق رغبة عند الإسرائيليين في إيجاد بدائل و صحيح أن إيجاد هذه البدائل ربما قاد إسرائيل إلى صحاري موريتانيا. لكن ما كان لذلك أن يحصل لولا تعاون حكومة هذه الأخيرة. أي أن منديلا لم يكن مسؤولا عنه، لكي لا يعتقد البعض أنني أريد أن أثير ثارات بيننا و بين الرجل أو بني قومه.

إن رجلا هذه صفاته لهو رجل يستحق منا الإحترام، إن لم يكن يستحق منا الإشادة. أما لعنه أو لعن من يشيد به فلا أرى له وجها. 

وعلى ذكر الوجه دعوني أخوض في وجوه الشرع خوض الطالب في موضوع يعرف كلياته و يجهل الكثير من جزيائته، يفهم مقاصده، ويجهل قدرا من فروعه. 

طيب دعونا نتفق على مجموعة مسائل حتى لو كان فيها بعض اللغط. أولا:أن الإستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى أمر محرم. ثم لنتفق ثانيا أنه لا يوجد في الإسلام ما يمنع من الإشادة برجل أو أمرأة غير مسلمة تتحلى بأخلاق هي من صميم الإسلام، كالوقوف في وجه الظلم، كالصبر، كالجلد، و هل جاء محمد صلى الله عليه و سلم إلا متمما لمكارم الاخلاق؟ أولم يعبر رسول الله صلى الله عليه و سلم عن إعجابه بخصال عنترة بن شداد حين سمع قوله:

"يخبرك من شهد الوقائع أنني أغشى الوغى و أعف عند المغنم"؟

وهل كان عنترة بن شداد إلا جاهليا؟ هل عرف عنه أنه عبد الواحد الأحد أو أنه آمن برسول من رسله؟

ثم ألم يعجب النبي صلى الله عليه و سلم بحاتم الطائي، بكرمه و سخائه؟ ألم يحتف بإبنه لذلك السبب؟

وهل كان حاتم إلا مشركا عابد أصنام؟ وهل كان إبنه قبل إسلامه إلا كذلك؟

وهل ثمة من هو أعرف بالله و بشرعه من خاتم أنبيائه؟ 

٢

طيب لنصعد الآن خطوة أخرى مع السلم. دعونا نتفق أن من الشرع أن لا نغمط الناس، ومنه أن نكون شهداء بالقسط. ثم دعونا نقرر أنه من قيم الشرع أن نعدل حتى مع من يناصبنا العداء. و لا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى. وهل يتنافى مع العدل و الإنصاف و القسط أن يذكر الرجل بما هو فيه من خصال الخير سواء في حياته أو بعد مماته؟ أو هل، وهذا أكثر عجبا، من العدل و الإنصاف إن ذكر غيرنا أحدا بخير، نعلم فيه مثله أو نجهل فيه خلافه، أن نقول له لم لم تقل كذا عوضا عن كذا؟ وما ذا يجني المرأ من فعل ذلك و خصوصا على رؤوس الأشهاد؟ و الخطاب العام يحتاج إلى حكمة.

٣

أصل إلى الخطوة الموالية على السلم وهي نوع آخر من الرد على المأبنين. هذا النوع هو التذكير بأن هذا الشخص أو غيره من أهل النار. أو أنه في الغالب من أهلها. لدي إعتراضان على هذا. أولهما، أن المرأ لا يعرف من يصير إلى النار ومن يصير إلى الجنة. فما بين البشر اليوم من سيكون من خزنة النار أو من أعطي علما بمن يلجها قاطنا أو من يمر بها عابرا. و لا أحد يعلم ما يحدث الناس في قلوبهم. هذا ليست دفعا بأن مندلا قد يكون أسلم، وإنما تذكير بأن العلاقة أساسها القلب، و أن المرأ حُرّم عليه بنص القرآن أن يقفو ما ليس له به علم. إنه درس يعلمنا الله إياه لكي نكون منصفين، عمليين، علميين، باحثين عن الحقيقة مبتعدين عن الظن، و عن الظلم، و عن التخبط، الذي بمثله يتعرض المسلمون و المتدينون منهم خصوصا لظلم و حيف كبير و كبير جدا. أفتقبلون أن تنزلوا لمدارك هؤلاء وأن تستعيروا صفحة من أعمالهم؟ 

طبعا القول بأن العلاقة أساسها القلب لا يعني إقرارا أو تبريرا لمن يرتكب الفعل الحرام جهارا أمام الناس ثم يقول أو يقال عنه، ما لكم وله إن قلبه سليم. لو سلم قلب المرأ لسلمت أفعاله، أو لخجل منها فأخفاها. 

ثانيا، ما الذين يجنيه المرأ بالتذكير أن شخصا ما يصير إلى النار؟ ما لنا و له؟ إن المسلم يتصيد الحكمة، و ينطق بالصدق، ولا يقول إلا الخير. من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت. وهذا آكد في مسائل تتعلق بمن يقصد بكلامه الدعوة إلى الخير. ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين.

إنك إن عمدت إلى فعل كهذا لن تجني إلا أثارة سخط من يأبن، أو من يحتفي بمن أدخلت النار. و ليس رضاهم مطلبا أو غاية، لكن إسخاطهم في أساسه ليس مطلبا ولا غاية شرعية أيضا. 

إذن، لم يرضى المرأ أن يضع نفسه في موقف إما أن يكون فيه كلامه تأليا على الله، أو إستعداء للناس؟ و قد حُرّم سب آلهة القوم، وهي أصنام يشرك بها، كي لا يسبوا الله عدوا بغير علم. فكيف إذن بسب شخص رحل عن الدنيا! فما هذا من خصال الإسلام ولا من شيمه مع الأحياء فما بالك من الأموات. 

ثم هبه فعلا غادر هذا العالم إلى نار جهنم. أتراه يخفف أو يضاعف له العذاب بتقريرك؟
ثم هل نخسر إن ذهب إلى الجنة أم نربح إن خلد في النار؟ 

٤

نصعد و نأتي إلى قضية أخرى وهي قضية من لم يستنكر التأبين، و لم يغلظ في القول، و لم يتكلم عن مصير فلان أو علان، وإنما قال أن الترحم على غير المسلم أمر مخالف لظاهر الشرع و للمتفق عليه. هذا موقف سليم لا يكابر فيه إلا جاهل، أو منافق أو مكابر. وحتى لو كانت ثمة شبهة خلاف--ولا أرى لها و جها-- فإن الرد على كلام كهذا يحتاج على الأقل إلى أدب الخلاف وإظهار الإنقياد لله و التسليم له و الإنابة له لو ظهرت حرمة الفعل.

وخلاصة القول في هذه هو أنك إذا شرحت مسألة التحريم مرة و بأسلوب ناصح غير عاتب، وإذا كانت تتوخى من وراء فائدة فلا بأس بها. أما إذا تبين أن النصيحة ستغري صاحبها، فالإمتناع عنها أو على الأقل التوقف عنها أولى.

٥
نرتقي الأن الدرج في خطواتنا الأخيرة إلى حيث يقف "رجال الفكر"، أو من يعرفون برجال المجتمع المدني، أو الطبقة المتنورة أو النخب و غير ذلك من الأسماء، الدال منها و غير الدال، و الشمولي في طرحه منها، و الإقصائي في مقاربته لها.

على هذا المستوى ظهرت مواقف متعددة، وردود فعل متفقة في الغالب. 
فثمة من أكتفى بذكر خصال مندلا دون أن يحدد له موقعا من الجنة أو يسأل له الرحمة. إن كان هذا البعض لم يعرّض بالآخرين أو يتفه عملهم فموقفه سليم على هذا المستوى سواء برر بالشرع أو بالإنسانية أو الأخلاق. 

لكن المشكلة من وجهة نظري بالنسبة لهذه الطبقة تكمن في الردود فقد كان التناقض صارخا بين الإفتتان بمندلا الإنسان و الرد اللاإنساني على المعارضين. إذا كان إعجاب هؤلاء بمندلا ينبع من كونه شخصية قاومت الظلم و الطغيان تحت و أسوأ أنظمة التمييز العنصري الأروبية، وكونه سامح سجانيه عندما خرج قائدا مسودا للبلاد، فإن هؤلاء ما إن سمعوا النقد--السليم و السقيم منه-- إلا وشرعوا في حملة هجوم مضاد أبعد ما تكون عن القيم الإنسانية التي يدّعونها و التي يمجدونها في شخص مندلا. فوصفوا أصحاب الإعتراضات بأنهم جهلة، وشذاذ آفاق، لا يصلح معم إلا السيف. بل و ذهب البعض إلى خطاب المعترضين عليه بالقول أنهم كفرة. وهي مفارقة عجيبة من من يتهم خصومه بأنهم يكفّرون الناس دوما!

وهنا يلتقي هذا الخطاب مع خطاب آخرين كان كلامهم عن مندلا في أساسه فرصة للتعريض بخصومهم السياسيين. لم يكن هدف هؤلاء الأول البكاء أو التباكي على مندلا، بل وجدوا في مندلا فرصة لمواصلة حملة سبابة لا تعرف التوفق ضد من يسمونهم الصحونجيين، أو الإخونجيين، أو تبتابة الدين، أهل قندهار، و المحاظر، وأصحاب لغشاشيبات وحماة التخلف. 

طبعا لا يحتاج المرأ إلى التأكيد على أن هذه اللغة لا تنسجم مع أفكار التحرر التي يدعي هؤلاء تبنيها. فالسخرية من الناس ووسطهم الإجتماعي أو المستوى التعليمي الذي تحصلوا عليه، أو طريقة لبسهم مسألة أقل ما يمكن أن يقول عنها صاحب فكر حر أنها تحتاج إلى مراجعة. 

و على أي حال فقد كان ثمة فريق آخر فتح أبواب الجنة على مصارعها لمندلا ليسكنه من فسيحها.

طبعا لا يحتاج المرأ إلى تذكير هذه الشريحة بالمسلمة التي قررنا سابقا من أن من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه. قد قيل هذا و ما أزاد هؤلاء إلا إصرارا. إنهم يغلقون أبواب الجنة عن "الإرهابيين" المسلمين ويفتحونها لغير المسلمين، في لفتة إنسانية كريمة. لكن لا مفر من الإعتراف بأن دعاء من هذا القبيل هو إما علم أو رجاء. فإن كانت الأولى فهي لا تختلف عن ما ينتقدون عليه من يسمونهم تجار الدين. وإن كانت الأخرى فصريح القرآن ينهى عن الإستغفار للكفار و قد نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن الصلاة على المنافقين وهم من يعيشون بين ظهراني المسلمين جاهرين بالإسلام مبطنين للكفر، فما بالك بمن لم يعرف عنه أنه أدعى الإسلام أصلا. 

ثم ختاما هبوا أن تأبين مندلا عمل يعضده الشرع سواء بإطفاء الشموع أو الإبتهال إلى الله لكي يرحمه، هبوا أن الأمر كذلك ألا ترون معاشر المتنورين وأنتم تحبون مصالح الأمة و تحرصون عليها أكثر من الغوغاء أنه من الأحسن أن تتركوا "للمتخلفين" هؤلاء المجاهرة بأعمال البر و التنطع في الشرع؟ لم لا تعمدون--وأنتم تدركون أن المتنطعين في الدين كما ترونهم سيعمدون إلى إثارة النعرات وشن الغارات و الإكثار من الضجيج حول هذه المسألة-- إلى الإسرار بالدعوات و الحفلات لأن الله يسمع سركم كما يسمع جهركم؟ أليس هذا أكثر تناغما مع إنتقادكم للمتدينين بالمجاهرة و المتاجرة و الرياء بمسائل الدين. ألا يرى الكثير منكم أن الطقوس الشرعية فردية؟ ثم ما الفائدة الشرعية أو العقلية من التنابز بالألقاب و السباب مع من ترون أنهم متخلفون؟ لم لا تترفعوا أنتم لكي تبقى جهودكم موجهة للرقي بالمجتمع بدل المساهمة في الصراعات و الإحتراب، حتى ولو كان فكريا؟

هذا طبعا إذا فرضنا أن العمل الفكري و الممارسة هما للتوعية و التنوير و خلق فضاء أوسع من الحريات!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هذا الذي جعل الألباب حائرة و صير العالم النحرير زنديقا

Hadith

مكانة العقل في فلسفة الإسلام