أرومة


قصة من الواقع


لو سار الزمن بطريقة أخرى، لربما كانت إحدى المرشحات لحمل أحد الملفات الإجتماعية في أحد أكثر الأحزاب تنظيما في البلد. لكن الزمن سار بهذه الطريقة. الطريقة التي لا تتبرأ منها، التي لا تتبرم منها، لكنها ستحكيك، إن عرفت في لهجتك صدق الحديث أوجاعها.

أرومة، العصامية، المتحررة، بمعنى المنطق و بمنطق المعنى، كانت ككثيرات من النساء في بلدها عرفن يتم الوطن في بلد كان من المفروض أن يكون بلد النساء و الفقهاء. وكانت من بين عدد أقل من هؤلاء النسوة عرفن يتما مزدوجا. 

بعصامية خاضت مجالات من الحياة، وبعصامية تقبلت صفعات من الحياة، بكل جرأة، وبكل صبر، وبكل مثابرة.

تدرك ككل من ذاقوا حلو الحياة أنه لن يسكن أحد فيها إلا صفعته. وحدهم المغفلون لا يرون إبتسام الحياة و لا يحسون صفعها. حياتهم أديم مستو، لا فرق في أوقاته، شمس تشرق و شمس تغرب. إن أشرقت لم تشرئب لها الأعناق وإن غربت لم تودعها المقل. 

كان قدرها أن تلتقي في الحياة أناسا هم في العلن أمجاد و في السر أناس من نوع آخر. تغالب الكلمات لكي لا تقول أوغاد لكن هي تعرف و كل من يحدثها أنها تريد أن تقول أوغاد. 

كان يوما حارا من شتاءات انواكشوط، وكانت للتو خرجت من قصة غرام، أخذ فيها فارس الأحلام الجار بذنب الجار، اعتلقت أظفاره بشوى خليلة من خليلات أرومة، ولم يكن شهما... شوى، وأكتوى. 

كان الجو في حقيقة الأمر باردا، لكنه كان حارا. كانت تريد أن تخرج منه بأي ثمن. قبح الله زمانا تكذب فيه العيون، ويخون الخليل، وتطعن فيه الصديقة من الخلف.فليتزوجوا لا بارك الله لهم. إن هي إلا الحياة. لكنها ليس الحياة. في الحياة من المفترض أن تكون محبوبا. في الحياة من المفترض أن يكون من تحبهم ثقة. وإلا لم تعلق كبريائك على أسمائهم، و تطلق سيقانك لعواصف الشتاء الهوج. 

ستمحو من الذكريات صور معطفه، ومن النفس ووسوسة حلي زميلتها، وقرع كعبها العالي، الذي ماعلى بها إلا لتهبط. 

إنه العالم كله، إنه أسود، لا كالشوكلاطة الجميلة، لا كتنورة على جسم حسناء بيضاء، لا كجلباب متوضئة وضيئة، إنه أسود من الفراغ. إنه حلكوك كأنه رؤوس الشياطين. 

عندما تسوّد الحياة... فإنها لا تبقي للألوان الأخرى مكانا. الترحة ليست ترحة الحب. خسرت الحب، لكنها ليس لديها من الوقت ما يكفي لكي تدخل في حداد. للأقارب، للإخوة، و لها هي ديون وواجبات في الحياة. لابد لديون الزمن و القرابة، و الطموح، و قوة العزيمة من أن تقضى وفي محرابها لابد من التعب، و القلق و اللهف. 

يرن الهاتف.. يقطع حبل الصمت، ويكسر منولوغ التراجيكوميديا. عندي خبر مهم. ليس من أولئك. رجل معروف، أنتبذ من هذه البلاد مكانا قصيا، سافر خلف البحار و تزود من أطيب ما يجمع التجار، ماله موفور، و سمعته تسير بها الدهور.

قلّبت في عالم الفيس، فكان هناك. فارس قارع الكتائب، له ضحاياه، التي كان ضحيتها، واحدة، ومثنى وثلاث. لا تعرف هل كان على مذهب من يجمعون إلى التسعة أم يحسبون بالمتتاليات أم من يؤولون على الأربعة بالأربعة، وهل وافق الشافعي فيما خالف فيه من فهم لغة العرب، من خوف العيلة، إو انتفاء العول. 
كان جلاد الليالي، وبناتها، و مهاود البيداء ومهامها قد فعل به ما يفعل بغيره. 

كانت لغته قرشية، وكانت هي من من يمزج لغة عذرة ببني أخيل، لكن ما ذا عليها من لغته. على الأقل، لغة قريش تمنع خصال بني قريظة. 

كانت أورمة تعرف أنه قد بلغ من الكبر مبلغا. وأنها وإياه لا يجتمعان إلا في مايجتمع فيه موحد وموحد. لكن هل كان سيكون لقصص أبي زيد أي معنى لولا صبيته، وهل كان سيكون إلا محتالا ركيكا لولا محنته. أرومة، كانت صادقة مع المقارب. قالت بيني و بينك ما بين الخنساء و الصمة، لكن لن أقول معاذ الله، ولن أتكلم عن طول الظهر و لا عن قصر الرجلين. لكن سأكون لك زوجا من أحسن الأزواج، أسليك في الحضرة، وأحميك في الغيبة، وأذكرك بالذكر الحسن. لن تمطل حقك ولن تكلف فوق طوقك. لكن لا حب، ولا عشق، لن أكذب فما في لغة أخيل إلا كسر المضارع، وما في لغة عذرة إلى مطايب المصارع. وما أري لي في هواك مصرعا. لست حبيبي لكنك زوجي. هذا شرطي، فآت شروطك. 

قبل كبير القوم قول أرومة، ليبدأ مسلسل في ثلاثين حلقة. كلها شر وكل حلقة شر من سابقتها. لوكان حبا لكانت أحبته، ولو كان كومديا لضحكت، ولو كان عتب مجنون لصبرت، لكنه تراجيديا صنعها عقل سافر إلى الخارج، لكنه ظل خارج الزمن. 

عتاب في الليل و عتاب في النهار، كعتاب ضرات الأعرابي المعروف. على هذا صبرت. وكيف لها أن لا تصبر و هي ستكون عروس الفارس عندما يأتي بعد أشهر. 

أتى الفارس، لكنه ترك فرسه، و فروسيته. جاء على بغل و كان على عجل. 

كانت أرومة قد أحضرت ما تراه مناسبا. حفل زفاف بسيط تستدعي فيه صديقاتها و رفيقات دربها ومعارفها. كان راكب البغلة على عجل. مع أن بغلته أحرن من بغلة أبي دلامة. 

قال مافي المدينة لي مآرب و لا لي فيها صاحب. نحن وإياك إلى الداخل دالفون، ولما فيه من الريح و الغبار و التراب و خشاش اللأرض ملاقون.

طعنة صبرتها، فهواه حار جاف، وهواها بارد رطب. على الجاف الحار وطأت النفس. 

أسبوعان، غاب أكثرهما وكأنها في العام الخمسين من الزواج. يحضر لكي يوبخ و يتفه ما تعلمت. كان راكب البغلة لكثير المال من الملاك، لكنه "كان يضن بنفاثة السواك." كل كلامه عن تفاهة جنسها وسخافة عقلها وسماجة فكرها. ليل الكلام يوصل بالنهار. 

كانت زوجة في شهر جنهم. لا يخفف عنها العذاب إلا في غيباته، وحسبك من شهر عسل أحلى ما فيه غياب الحليل، و نظرات القريبات يتشفين، إنها مهجورة فيه من يومها الأول. 

يخلوا إليها إذا خلى إلى شياطينه، و يهجرها إذا خلى منها. 

في أسبوعها الثاني من زواج راكب البغلة، كانت أرومة تعمل تحت وهج الشمس لأن راكب البغلة كان قد إمتطى فرسا أبلق لا لغزوة من غزواته، ولا لشهامة مستجدة من اخلاقه، بل لأن مهرجانا كبيرا قد حان حينه. كان الفارس الأبلق قد إستدعى أكبر علماء البلد، و جمع من حزبه كل مشار إليه بالبنان، ومعروف بمضاء اللسان و الأسنان. 

كان القوم مع المضيف، وكان مضيافا، وكان كريما. وكانت زوجته تكابد وهج الشمس، ومشقة العمل لكي يكون راكب البغلة فارسا بين عيان القوم، ولقد كان. من ماله صرف مآت الآلاف. وكان عنها بعشرة منها ضنين، مغلول اليد. 

في فترات الراحة، يمر بها لكي يذكرها بأنها لا تستحق ما ترى به لنفسها على غيرها الأفضال وانها فسدت بسبب التنافس مع الرجال. 

كان فارسا مباركا بين الخلان، تدور الكؤوس، و الكباب، و الكسكس، و الكراديس الحسان. وفي الليل يتمرون أحمر الرطب و ثاغي اللبن. منعها إلا من العمل، لا حق لها في حضور الإحتفال ولا مكان لها بين المحتفين بالكهول و لا بالأشبال.

كُرّم الضيوف، وقرأ القرآن بحضورهم وعلى آثارهم، وصلى من صلى و صلى راكب البغلة بعد أن تنكب الجواد من جديد. يومان وثلاثة وأربعة و خامس، ثم كانت القشة التي قصمت ظهر البعير.

إختارت ما بين الإنتحار و الرحيل. ابتلعت الصبر بدل السم، وركبت إلى حيث تجد من البغال و ركابها مجيرا. كان مستهترا ومتهكما حتى بلغ من شأنه أن قضاة هم في الأصل أميل إليه، قالوا لقد طلقت منك و بانت. 

عفى الله عنه. لعله أحدث توبة.

لعقت أرومة جراحها من راكب البغلة، ومضى بها الزمن إلى مغربه مرة أخرة. 

هذا المرة. كانت مع شاب. يشترك و صاحب البغل في التغرب عن الديار و الإنتماء لنفس الإتجاه حينها، مع أن الزمن أتي بما محى خطوط الماء على الشاطئ الرملي.

أرسل إليها يطلب الصداقة، و يبغي التعارف. على حب الفيس إجتمعا، وعلى قصيدة من الشعر، نثرا. ثم حصلت جفوة. وجائت نوبة، فيها تململ يمنة وشامة، حصّن نصف الدين و نشر نصفه الثاني على الصفحات.

باركت للغلام. ثم إنسحبت. ضن بالجواب، فلم تظن به إلا خيرا، رجل أحب أهله وأنشغل بهم، من ذا يلوم من لقي الأحباب على نسيان الأصحاب. 

وفي يوم حار من شتاءات نواكشوط في زمن تنادى فيه القوم لحصاد ألسنتهم، جائت رسالة يطلب فيها الإضافة و خاص الحديث ثانية. قبلت الأول و رفضت الثاني. 

إحتال و الرجال في زمن ركوب البغال محتالون. فقبلت أن تلقاه. واعدته في النهار و ظل يتعذر حتى غربت الشمس. ثم جاء ممتطيا الظلام، رغم حبه للإضواء. 

راودته على واسع طرق نواكشوط و مضيئها وصاخب قهاويه وصامتها لكنه أبى إلا الضيق و المظلم، وهو يتذرع بأنه عنده رسالة خاصة لها، وأنه مشهور، وفي التخفي لهذا معذور. كاد أن يخيل إليها ان الباباراتزي يتجمهرون حولهم. 

حاولت الهرب فلحقتها يده. ذكرته بزواجه فغضب. نزل بيدها عنفا إلى حيث غلبت شهوته شهامته. و في صمت من خوف العار، و كره الغصب، بكت و بكي هو أيضا. بكت هي ألما و بكا هو لذة. 

ناولها قطعة من كلينكس مسحت بها يدها من دموعه الآثمة ورمت بها وجهه المكفهر، قبل أن تطلق ساقيها للريح وهي تدعو أن لعنة الله على أوغاد يكتبون لغة قريش و يعملون عمل بني قريظة. 

شاهدته بعد ذلك يدلي يده إلى شهوة أحط من شهوته الأولى. لم تشمت... لكنها صمتت. الصمت سلاح المظلومين.

ولو دار الزمان و سار على غير هذا لكانت مسؤولة إجتماعية في أكبر حزب منظم في البلد. لكن ركاب البغال من بلاد الغرب...أبوا إلا أن تظن بهم الظنون

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"تحليل التراث الإسلامي"

هذا الذي جعل الألباب حائرة و صير العالم النحرير زنديقا