تونس ما بعد الإنتخابات: قراءة في المشهد العام


يوم جديد على العالم العربي، تكون تونس فيه محط أنظار المتابعين، تونس التي فجرت الشرارة الأولى لما تعورف على تسميته بالربيع العربي. ربيع لم تزهر أزهاره بعد، ولم تقطف أشواكه.

إن صدقت المؤشرات بفوز حزب نداء تونس بالأغلبية فثمة أربع تحايا مستحقة.

أولا تهنئة مستحقة للرئيس الحالي ولمن اشتركوا في صناعة القرار في تونس، على قدرتهم على إدارة إنتخابات من الواضح أنهم ليسوا من سيجني ثمارها.

نحتاج إلى هذا النوع من التجارب في بلادنا التي مازال بعض الغرماء فيها يفضلون الملاكمة على الحوار.

وتحية ثانية مستحقة للقائد السبسي، الرجل الذي يحرك تونس مرة أخرى إلى حيث كانت، دون بحور دماء، ومطبات أشلاء، مثل ما كان الحال في الأخت المكلومة مصر.

و بتواز مع تلك التحية تحية أكبر للأخوة في الإمارات و السعودية على إدارة الأزمة التونسية بحنكة، بعيدا عن صلف المؤسسة العسكرية، وعلى تعلمهم من دموية المشهد المصري. لقد لعبتموها كما ينبغي هذه المرة. فكما إنتقدناكم في تلك، نحييكم على هذه.

فمن كان يفديه من الأسر جيشه--فهمدان يفديها الغداة ريالها

وآخر التحايا للأستاذ الغنوشي ورجاله في النهضة. تحية لأنكم اخترتم أن تضحوا بحزبكم السياسي لكي تأجلوا الصراع، كي لاتختلط على القوم سيوف السلفية و خطب الإخوان، يوم يحين النزال و يحصل الفرقان.

الآن وبعد أن حيينا من يستحق التحية من اللاعبين الكبار في تونس، حان الوقت لكي نتلمس خيوط المرحلة.

أولا النتيجة منطقية. لا أحد يختار بحرية نفس الفريق الذي يسجل الأهداف في شباكه من أجل تنهي مبارات الذهاب بحجة أن الرياح في صالح خصمه، وأنه سيرجح الكفة في جولة الإياب إن توقفت العواصف لسببين بسيطين:
١- الناخبون لا يمتلكون حلولا سحرية تتحكم في مجريات الريح وفي متجهاتها.

٢- الناخبون مثل النساء في زمن الحداثة، ربما يشعرن بالرحمة تجاه ضعاف الرجال، وصغارهم لكنهن دوما يخترن الأقوياء كأزواج. بعضهم يشكر التطور على ذلك وبعضهم يذمه لأجله.

ثم إن النتيجة نتيجة متوقعة لطبيعة الخريطة السياسية في تونس وفي العالم العربي في هذه المرحلة من التاريخ. فمنذ بداية ظهور التيارات السياسية الإسلامية في الساحة العربية، كان يتجاذبها إتجاهان، إتجاه سلفي وآخر إخواني.

في حالات الإنتخاب يكون أمام الإسلاميين عادة ثلاث خيارات.

١- يقاطع السلفيون و يشارك الإخوان. 
٢- يشارك السلفيون و الإخوان معا ولكن بشكل منفصل دون أن يحصل صدام

٣- يشارك فصيل من السلفين مناضرا لخصوم الإخوان.

في الخيار الثاني يفوز الإسلاميون من المجموع الكلي بنسبة أغلبية معتبرة... ومع ذلك قد يخسرون الرهان في وجه خصم معتبر نتيجة تفتيت الكتلة الإسلامية.

في الخيار الثالث يفوز الإخوان في الأغلب، لأن صغار السلفية لا يتبعون كبارها إن خرجوا عن طابور "العمل الإسلامي." فالسلفية الشبابية ليست توجها حزبيا أو أيديولوجيا مؤطرا بقدر ما هي طاقة دينية، مرنة، ترمي سهامها حيث ظنت مخطئة أو مصيبة أن مصالح المسلمين في مرمى النيران. ولذلك فحتى غرمائهم من الإسلاميين يعترفون لهم بإخلاصهم و تفانيهم، و تجردهم. ما ينقمون عليهم إلا ما يروه فيهم من السطحية، و التعجل. وما ينطبق على السلفية ينطبق على كثير من شباب المسلمين ممن لم تتنازعه أهواء الأحزاب و الجماعات. فالسلفية--أقصد سلفية الشباب، أما سلفية الشيب فتعرف منها و تنكر-- هي أقرب الأيديولوجيات لمشاعر المسلم العادي وقت الصلوات و بين نوبات قراءة القرآن. طبعا من لا يقرأون القرآن لا يفهمون هذا.

يشبه الخيار الأول الخيار الثالث، ففي كليهما يصوت شباب السلفين و سوادهم الأعظم للإخوان، في صدقة سر خالصة يسبقها و يتبعها شيوخهم بالمن و طلب القضاء.

لكن هذا لا يحصل دوما هكذا، فلكي يخرج الشباب على مقاطعة الكبار للإنتخاب، وهو عملية مناقضة لجوهر الفكر السلفي، لابد أن يكون ثمة مجموعة من العوامل، أهمها:

١- حنكة من طرف الإخوان تسهل مقاومة إغراء هجاء السلفيين أمام غرمائهم العلمانيين لكي يبعدوا عنهم تهمة الإرهاب التي يجلدون بها.

٢-غياب بدائل سياسية أو عسكرية عملية يمكن أن تنتهجها الكتلة السلفية

٣-خوف حقيقي من غلبة تيار معاد للإسلام، وليس مجرد مناوئ.

إن توفرت هذه العوامل الثلاثة صوت السلفيون للإخوان حتى وإن قاطعت قاداتهم.
وإن إختل واحد من هذه لم يصوتوا.

لقد كانت الحملة الأخيرة في تونس، إحدى الحملات التي إختلت فيها هذه المعطيات الثلاث، بثلاثها.

أولا، لم يتوقف الإسلاميون المحسوبون على الإخوان عن هجاء السلفية طيلة الحملة وما سبقها. ولم تكن حملاتهم أمام الناخبين و في الصحافة بالشيئ الهين، فقد كانت أكثر من هجمات العلمانيين أنفسهم. فقد سخروا من السلفية من البغدادي، إلى بن لادن. لقد قدمت النهضة نفسها على أنها البديل للدولة الإسلامية، وأهتمت بذلك أكبر من إهتمامها بأنها البديل لما قبل الثورة.

ثانيا: مع أن السلفية في تونس و في ليبيا التي تحدها ما تزال بعيدة من إمتلاك الخبرات العسكرية الكافية، و الأسلحة الضرورية لجلاد مجتمع الدولة الحديثة ومددها الغربي، إلا أن بريق ذلك البديل يلوح في الأفق، و توجه الشباب إليه أمر لا تخطئه إلا عيون العميان.

ثالثا: يدرك السلفيون أنهم يأتون المجتمع ينقصونه من أطرافه. فالبطالة، وتحول الحداثة في بلاد العرب إلى سمفونية أوتارها سموق الجشع و البهرج وخفوق الأخلاق و طلب العلم، ونقلة النهضة من حركة سياسية إلى نخب فكرية، كلها تجعل أوتار السلفية بديلا جذابا.

بدون أدنى شك يدرك السلفيون كما يدرك غيرهم أنه أمام شبابهم كما هو الحال بالنسبة لبقية الشباب في المجتمع تحدي الإستقطاب و الإنفصام، بين شخصيات مسلمة الفكر، و العقيدة، و الخطاب، تائهة الفعل، ضائعة التخطيط، تقبّل العلمانية مقبلة، وتصفعها مدبرة، تدرك أنها مفتونة، تخاف أن تكون غلبت عليها شقوتها، وتأمل أن كبائر العلمانية من لمم الذنوب.

وشر ليالي العبد ليل يسيره--إلى ظلمات ما بهن قرار

وعند الفتى لو يستطيع تدبرا--مصابيح نور ما بهن أوار

لا خوف على تونس من العلمانية، لا سيما ممن صلى ولو سهوا، فليس في العلمانية في أبهى صورها ما يعدل سجدة ساه، غاو فاسق. ولا ينبئك مثل خبير.

من استهوته العلمانية في نزوة، عادة عنها في غزوة... فالنزوات كالمصائب تبدأ كبيرة ثم تصغر مع الوقت.

ومن جاء إلى العلمانية تائها ظل فيها كذلك، لا يقوم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس. ليس في بلاد المسلمين، حتى ممن يتشدقون بالعلمانية طلبا للنكاية أو حبا للشهرة، أو تيها وضياعا، أو تصابيا و زيغا، من يستمتع بالحيوانية، و ليس في العلمانية شيء آخر غير البهيمية حتى وإن كانت بهيمية عالمة بقشور الحياة.

فالطريق بين المسؤولية و اللذة في عالم العلمانية، منحدر يتماهيان فيه، فتكون كلاهما ثمرة النضال، ووقود الحركة، ولا يوقف تلك الدوامة إلا فكر من أراد أن يوغل في العبودية لنسقها فيخسر جوهرها وغيرها، أو من أراد أن يطلقها ويفارقها.

وخير المفارقين من فارق و ما زال في قلبه نبض من شباب.

في تونس. قاطع السلفيون، فحصلت النهضة على أصوات النهضة، دون عمقها السلفي ودون مناصريها الموسميين ممن لم يروا فيما مضى من تسييرها ما يجعلهم يراهنون على حصان يخسر الرهان الذي يفوز فيه.

ما من شك أن النهضة ستهنئ النداء. لكن أمام نداء تونس مهمة كبيرة، ففي حين أن إعادة تونس لعهد زين العابدين، أمر ليس بالصعب، تبقى إعادة التاريخ إلى ما قبل ١٤ من ينائر عام ٢٠١١ مسئلة في غاية التعقيد.

طبعا ما من شك أن السبسي رهين بما كسب. وليس كل الكسب مما يصل الجيوب طبعا، لكن سيبقى لأصحاب الجيوب العميقة أثرهم. فتونس السبسي لن تكون تونس زين العابدين التي ورثت الحبيب بورقيبة. و خيارات السبسي، هي بين إستعجال النزال مع السلفية أو تأجيل ذلك الإستحقاق. الحملات الأمنية و التضييق على النهضة كفيلة بإنجاز الأولى، و تقاسم الكعكة الإنتخابية كفيلة بالثانية.

ومع ذلك وعوضا عن المنوذج البورقيبي وما تلاه تبقى تونس مرشحة للإعادة نظام مبارك في مصر، لبرالية دولة، وميوع نخب، وسلفية جماهير. ولكن تبقى عقدة تونس أنها دولة بلا جيش وبلا موارد ثابتة.

لن يكون بوسع السبسي أن يوقف المد الديني في دولته. ولن يكون في وسع غرمائه أن يوقفوا تحور الدين إلى ثنائية إستقطاب، بين الرحلة إلى النوادي الليلية، ومعسكرات التدريب. فالشباب الباحث عن المهدئات أو الحلول النهائية في كلا الطرفين سيلتقيان في المسجد إذا ضاقت أو طالت الدروب. ما يميز جيل الأبناء عن الآباء هو الجرأة وقلة الصبر.

أمام النهضة خيارات أصعب، فالسبسي ليس أمامه ما يخسره، فنداء تونس قد يتحول إلى غنائها أو رثائها دون عناء، ودون أن يؤثرعلى ما تبقى من أيام السبسي على قيد الحياة شيئا. أما النهضة فأمامها خيارات صعبة.

النهضة كنخبة فكرية قد ضاقت عليها الخيارات الفكرية في عالم العرب. فالجالسون في بلاط الحكم في السعودية والواقفون في البوارج الأمريكية لا يواجهون المد الشيوعي في بلاد الشرق الأوسط، وأدعياء عبد الناصر ركبت لهم قلوب أمريكية في مصانع إسرائيل. وهم إلى ذلك قصار القامات، لا يحسنون الخطابة ولو في غرف مغلقة. حكام السعودية ورجال أمريكا يواجهون البغدادي، وهو رجل لا يعير للفكر إهتماما و لا لصورته في عيون الناس إلتفاتا، صعلوك يبدأ ويختم وجباته من كتب إبن تيمية بقصائد من شعر عروة بن الورد.لا تقف رجاله إلا حيث تسقط بين القتيل و القتيل. لايتلعثم في الحرب فأحرى أن يتأنى في السياسية، و لايترك لغرمائه فرص التلعثم في هذه ولا تلك.

سيكون أقرب القوم إلى رجال النهضة من الأكادميين و أشباههم، قوم من العلمانيين، و الإسلاميين إغترفوا من العلمانية ست غرفات، ثلاث طوعا وثلاث كرها، ومع ذلك ضاقت عليهم هم الآخرون الأرض بما رحبت في بلاد العرب، إلا ما كان من مواضع أقدام في مراكز للبحث في قطر. مواضع تضيق مع مرور الوقت، ليس فقط لأن القطريين يتعرضون لحملة تشويه كبيرة ولكن لأن القطريين منغمسون في حرب من نوع آخر ضد ملايين وبلايين آل سعود وآل نهيان التي أنفقت على صحافة الغرب لهجاء القطريين بلغة شكسبير. وقد قام القطريون بما أملاه عليهم الواجب، فقابلوا الدولار بالدولار و الصحفي بالصحفي، الأنثى بالأنثى و الذكر بالذكر.

أما شباب النهضة فستنزاح منه إلى اليمين طائفة، و إلى اليسار طائفة أخرى. من كان على علاقة مستقرة بالقرآن، إنتظر حتى يمتشق السلفيون سيوفهم--ويوم تلك آت لا محالةــ ثم اختار أي السلفيين أقوم منهجا وأشد نكاية. أما من كان من النهضة على خلط بين رياض الصالحين، وبعض فلسفة المتنورين، فلن ينتظر ليلة ولا ضحاها بل سيسرج خيله إلى ركاب السلفيين، الإنغماسيين، وسيكون بينهم منظرا، وموجها.

أما من صغر سنه، وقل مع القرآن مكثه، و مع الفكر لبثه، فسيرتعي في مسارح مدعي العلمانية زمانا، يبحث فيها عن ما يعيبها بها، ثم ربما إن إنقضى وطره، وبطل عجبه، عاد من حيث أتى، نهضويا خالصا، إن كان للنهضة بقية.

ستكون أرض الجبال، ووعر الحدود مكانا جيدا، وخلفية إستراتيجية، لما بعد الإنتخابات.

لا أتكلم عن يوم الأربعاء، بل عن عشر سنوات قادمات. سيكون مصير ليبيا مصير تونس، أو لربما العكس، وسكون مصيرهما مهما لمصر.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"تحليل التراث الإسلامي"

هذا الذي جعل الألباب حائرة و صير العالم النحرير زنديقا