قليلا من النفاق وكثيرا من الصراحة




التشخيص:
معظم الصراعات في التاريخ ناجمة عن النفاق، وأسوق لكم مثالا من النفاق تعرفونه جيدا.
معظم العاملين للإسلام ومعظم العاملين في الغرب، ومعظم لبراليي المسلمين، و لبراليي الغرب، ومعظم الخطباء و المتحدثين لا يريدون أن يعترفوا بحقيقة الصراع بين المجمعات.
الصراع حقيقة موجودة، ولا مفر منه ولن يتوقف،لكنه ليس بالضرورة مدعاة للحرب ولا بالضرورة مدعاة للتناحر. كما ليس من الضروري أن يتم تمييعه لكي يحصل السلم. بل العكس هو الصحيح. فلو صدق الناس بعضهم بعضا ووقفوا عند مبادئهم لكانت الكثير من الصراعات حلت بطرق سلمية وحضارية.
لكن الكثير من قصص الحوار هي مجرد تمثيل سخيف. ولذلك لم تتوقف الحروب ولا الصراعات رغم الحديث عن التقارب الإنساني و الحضاري وغيره. ولم تخلق مجتمعات أكثر تحضرا ولا أكثر أخلاقا.
لنأخذ عينة بسيطة متعلقة بعلاقة المسلمين بالغرب.
أي مسلم سوي طبيعي يؤمن بالله ورسوله ولا يعاني من الفصام سيكون من إهتماماته أو من أحلامه أن يعيش في مجتمع يحكم بالقيم التي يؤمن بها. وهذه القيم بالضرورة لا تتفق مع بعض أو غالب القيم التي تؤمن بها المجتمعات الغربية اليوم.
كل اللبراليين الغربيين الطيبيين يريدون أن تنتشر اللبرالية في العالم، ثقافيا و تجاريا، ويشترك معهم متدينو الغرب في أن العالم يجب أن تسوده أنظمة لا تكون فيها علاقة بين القيم الروحية و الأخلاقية و الممارسات السياسية و الحياة المجتمعية. 
ومن البدهي و المتوقع أنهم يتفاوتون في هذه على درجات.
لكن ثمة قواسم كثيرة، ومن أبسطها أن اللبرالي من الناحية النظرية يرى أن الدين في أحسن أحواله ممارسة ساذجة، سابقة على عصر "التنوير" لكنها لاتزال لازمة من لوازم الحياة الجديدة، لأن العلمنة لم تأخذ بعض مجراها تماما في كل الشعوب ولو حتى أخذت مجراها فإن ثمة دوما فاشلين سذجا سيبحثون في الماورائيات عن حلول لمشاكلهم الحالية.
ولذا فإن أعدل المجتمعات هي التي يسمح فيها للدين كنوع من الرأي الآخر، يتنافس مع الآراء الأخرى، في جو يطبعه عدم إنضباط حرية القول و الفعل إلا بضابط القوانين التي تتوافق عليها مجموعة متغلبة في الحكم في مرحلة معينة حتى تتمخض الأمور عن مرحلة أخرى مختلفة.
معظم التفكير الغربي الحديث يؤمن بخطية تاريخية تقول إن المجتمعات ستتم لبرلتها و تحريرها.
بالطبع ثمة استثناءات و نقد كبير للفكر السائد في الغرب، ومنه حتى نقد فكر عصور التنوير ومن أشهره نقد أدورنو وهورك هايمر للأفكار التنوير و تحولها إلى نقيضها.
ليس مهما في هذا الكلام التعريج على تلك الآراء لكن من المهم توضيح أن الفكر الغربي مسكون بهذه الخطية التاريخية. و ينتقد الكثيرون في الغرب على الجماعات الإسلامية أنها تؤمن بخطية شبيهة.

ليست الخطية مشكلة في حد ذاتها لكن المهم في هذه النقاط هو أن الإيمان، وحتى العلماني منه-بخطية معينة يجعله في صراع مع خطيات أخرى.
دعني أسوق مثالا بسيطا على تجذر فكر الخطية هذه.
من يتتبع خطابات أوباما الأخيرة عن الحرب في العراق يلحظ مايلي:
١- يقول ندرك أن هؤلاء، ويقصد الدولة الإسلامية التي يرأسها البغدادي، سيخسرون في النهاية أيديولوحيتهم.
٢- في معرض حديث أوباما عن طبيعة الصراع اليوم كان من الكلمات التي لاقت رواجا كبيرا لاسيما في أوساط النخب المسلمة المتعطشة إلى شيئ موجب يخرج من دوائر السياسة الغربية قوله أن الإسلام ليس وحده العنيف. فقد تلقفت أسماعهم تقرير أوباما أن التطرف شيئ موجود في كل الديانات وأنه على المسيحيين أن ينزلوا عن الهضبة الأخلاقية الذي ركبوا ونظرتهم الدونية للإسلام بأنه دين إرهاب، فقد كانت الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش أكثر تشددا وعنفا وتزمتا من كل ما يظهر اليوم في الإسلام وأن هذه مراحل من مراحل التطور. طبعا تعاملت النخب المسلمة مع المسألة بسذاجة أو برغماتية مع هذا الخطاب ونشرته على أنه أمر مهم.
ما تجهله أو تتجاهله النخب المتعلمة المسلمة عمدا هو أن هذا الخطاب في جوهره خطاب معاد للدين. أي يعتبر أن الدين يبدأ متوحشا ثم يميل إلى الأنسنة، أو الإنسانوية إن خضع لتغييرات كتلك التي حصلت في أروبا في مراحل ما بعد عصر التنوير.
الخطاب في جوهره يقول أن الطريق نحو التطور يمر بأنسنة الدين وقتل ميوله الوحشية.
وهنا تكمن الخطية، إن الناس كانوا وحوشا متديينين حتى جائت الحداثة فأخرجتهم من الظلمات إلى النور.
لا يهم هنا أن نسوق عدم إتساق هذا الطرح مع المعطيات الإحصائية للعنف لا محليا ولا عالميا، فلم تكن الحربان العالميتان في الأساس حربين دينيتين بل كاننتا حربين علمانتين بإمتياز. ولكنهما من أكثر الحروب هتكا، وتدميرا، وقتلا.
كما لم تعرف إحصائيات القتل تقلصا معتبرا فيما بعد ذلك، رغم أن نسب القتلى إلى عدد سكان العالم قد إنخفض نتيجة الزيادة الكبيرة في سكان الأرض. بالتـكيد يمكن أن يقول الناس أن المسألة ناجمة عن تطور وسائل القتل وهذا حقيقي، لكن هذا التطور الذي ولد في بيئة علمانية لم يصحبه تطور في مستوى الحكمة، ولا التسامح، ولا الرحمة.

 ما من شك أن بعض أولئك الذين يستمتعون بالأمان و الفرص الإقتصادية يظنون بحكم القوقعة أن العالم جميل، لأن الجانب المظلم محجوب عن عيونهم قصيرة النظر.
 والناظر إلى سياسات أوباما و القتل عن طريق الطائرات المسيرة يلحظ أن القتل ليس أمرا دينيا فحسب بل للعلمانية الحاكمة وسائل قتلها، وعوراتها التي لا تسترها الخطابات الطنانة الرنانة إلا عن عيون العميان.
على أية حال، ليس هذا موضوعنا.
ولذا نعود إلى موضوعنا لنضيف أن الخلافات الحاصلة بين التيارات الدينية في الغرب و التيارات العلمانية فيه هي خلافات ليس في جوهر العلاقة مع الإسلام بل على كيفية التعامل معه.
فكلا التيارات المحافظة و غير المحافظة تعتبر أن قيم الإسلام نشاز في هذا العصر القائم على علمانية، مرتكزة على خلفية يهودية، مسيحية--جديو-كرستين.
ومع ذلك يختلف الطرفان في المقاربة. فالعلمانيون يعتقدون أن الضغوط الإقتصادية، سلبا وإيجابا، و الثقافية دفعا وتضليلا، و الحروب المحدودة و المموهة أهدافا واستراتيجيات، هي الطريق الأمثل، وإن كانت الأطول للتغلب على الإسلام.
على النقيض يرى المحافظون أن الإسلام خطر أيديولوجي ينبغي أن يسحق بالحرب، و الغزو، و عدم الميوعة الثقافية.
هنا ينبغي التذكير بأمرين، أولا، أن غالبية المحافظين لا يمانعون في عملية تمويه الإستراتيجيات العالمية سواء في الحروب أو الضغوط الإقتصادية، لكنهم يخافون من تساهل العلمانيين الغربيين، و الذين يعدونهم أعدائهم المحليين، من تسهيل الحياة الغربية للمسلمين، لأن في هذه خطرين إثنين:
 أولا، تحكم المسلمين في الغرب دون الحاجة إلى الغزو.
 أو ثانيا، تحورهم إلى الفكر العلماني اللبرالي الذين يعارضونه داخليا.
ويختلف المحافظون في أي الشرين أهون، بين مغال ومغال.
بتبسيط كبير، ما يريده الغرب في العالم الإسلامي هو التغير التدريجي أو المتسارع نحو المسارات التاريخية التي مرت بها أوروبا. وهذا يتطلب حتى من المؤمنين بالغزو الثقافي ومعارضي العمل العسكري المباشر التشويه المستمر للمحاولات السياسية التي تسعى إلى رفع الإسلام من مستوى التمثيل الشعبي إلى مستوى السلطة الشرعية و الأخلاقية. 
السبب ليس معارضة دخول الدين للسلطة، مع أن تلك هي اليافطة التي يحصل حولها هذا النقد، ولكن لوعي الإنسان الأورو أمريكي أن القيم و الأخلاق في الغالب تأطرها السلطة وتجعلها ذات معنى ومدلول، بينما تبقى هلاما من المشاعر المختلطة بدون مظهر السلطة ومنطق الغلبة التي توفرها المؤسسية.

طبعا يمكن للمسلم أن يستعيد ما القولة الشهرية لعمر من أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، أو حتى يستأنس بالآيات الكثيرة في أن غالبية البشر لا تؤمن بالله أو تخافه، ولذلك من الطبيعي أن تكون خشيته هي مما دون ذلك من السلطات، لأن أعينهم حجبت عن الله. هذا الكثرة ممن قد يكون بلغه خبر الرسالات السماوية فما بالك بمن يعيش غلفة مزدوجة، غفلة تحسب تفكيرا، ورقيا. 
عقدة الغربي هو أن الأفكار السائدة اليوم، فكران، فكر نظري ولدته أفكار التنوير وفكري عملي أنتجته أدوات الحرب و الإكراه، و الخداع و الإستغلال الإقتصاديين. فأفكار التنوير تخلق بنية فوقية وتبريرا خطابيا لما أنتجته أدوات الحرب.
يدرك الغرب أن هذا التناقض مفيد لكنه قابل للإستغلال. ولذلك فالغرب يريد ويعارض اللبرلة في العالم الإسلامي في الوقت ذاته، وتخوفه ليس اللبرالية المجتمعية في حد ذاتها، لكن من أن تنفذ المحافظة الدينية عبر هلام اللبرالية الخطابية و الإجرائية لتطبع قيم المحافظة الدينية. و قد برهن الإسلام ليس فقط على الترابط الوثيق بين السلطة الدينية و الزمنية، بل وسعي الأولى إلى استثمار الأخيرة لبلوغ المقاصد الأخلاقية الشرعية، وهذا يجعل الإسلام دينا يرفض أن يتصرف كما تتصرف الأديان الأخرى--كما يلحظ ذلك بغيظ الكثير من خبراء الشرق الأوسط-- التي تم تدجينها في القالب العلماني للدولة. أي أنها أصبحت أديانا لا تسعى إلى المشاركة السياسية في السياسة و لا السيادية الأخلاقية في المجتمع. بإختصار:
إن العلمانية الحديثة وما بعدها لا تسعى أن يكون ما لقيصر لقيصر وما لله لله، بل أن يكون ما لقيصر لقيصر وما لله تحت رعاية قيصر. إن العلمانية الحديثة في أجلى تجلياتها ليست فصلا للدين عن الدولة، ولا للدولة عن الدين بل سرقة الدولة للخطاب الديني وتجريده من كل ما يشير إلى أصله. ثم بعد كل هذا تسعى الدولة إلى ترويض الدين، بحث يبقى ممارسة فردية، كبقية الهوايات المتاحة للفرد لكي يتعهدها عندما يفرغ من العمل فيستشعر خواء روحه.
وحتى في حياة الإجتماعية يتم الدفع بالدين إلى الخفاء، حتى لا يكون بين العامة متناصحون أو متذاكرون. 

وهكذا يصبحون في حال شبيه بالحال الذي ذكر القرآن:

كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون.


طبعا تبقى المنكرات السياسية و الثقافية مستثناة من هذه اللبرلة لأنها ذات بعدي مادي آني.
الحلول:
من استغباء العقول المسلمة أن يظل الغرب ونخب منه تتجاهل أن لب الصراع هو معارضة خلق دول أو دولة إسلامية تنبني على القيم الأخلاقية و القانونية التي وضع الإسلام.
ومن الغباء أيضا أن يعتقد بعض النخب الإسلامية أن الغرب الأكثر تطورا تقنيا، والأكثر ثروة ثقافية، نتيجة التبعية المؤسسية، يمكن أن يتم خداعه فتظهر هكذا فجأة دولة إسلامية بهذه المفاهيم ولو حتى بالتدريج دون أن يخلق الغرب المبررات العملية و الوهمية لغزوها، إقتصاديا أو سياسيا أو عسكريا أو الثلاثة في آن واحد.
من السذاجة تصور هذا.
طبعا أكثر سذاجة وحمقا من هذا أن يرفع المرأ راية الإسلام عن طريق الكذب أو عن طريق القتل غير المشروع و المشروعان يتنازعان المشاريع الإسلامية الماثلة للعيان.
في المقابل من الممكن و المكن جدا أن تتفق النخب المسلمة المهتمة بالشأن العام على خطاب صريح مع الغرب وتحاوره دولا، ونخبا ومؤسسات ومجتمعات به.
و الخطاب بسيط ومنسجم بل ومتطابق مع الصدق الذي يريد الإسلام من أهله.
١- إن الإسلام ليس عدوا لأحد ولا للإنسانية بل إنه دين رحمة، لكنه ليس دين سلام بالمفهوم المتداول بين السذج أو المنافقين المسلمين و المراوغيين الغربيين.
إن الإسلام يتيح لأهله الدفاع عن أنفسهم، ويعتبر ذلك أمرا عظيما وجليلا.
٢-إن الإسلام يقبل المعاهدات المنصفة التي يلتزم بها الناس، ولا مشكلة عنده في مبدأ عدم العدوان.
بل إن الإسلام يحرم على أهله العدوان.
٣- الإسلام ليس ضد التعايش السلمي ولا التعاون الإقتصادي، و لا الحورا ولا الإحسان، ولا أعمال الخير، ولا التعاون في المشترك.
و الآيات في هذا الباب واضحة صريحة، لا ينهاكم الله.... إنما ينهاكم الله...
٤- الإسلام دين يسعى لأن يقام كشرع في بلاده، وهذا حق بسيط من الحقوق المقررة اليوم، وإذا لم يكن كذلك فإن المسلمين سيقررونها.
٥- احترموا أنتم حقوق الإنسان في أرضكم، أما نحن فسنكرمه أولا ثم سنحسن إليه ثانيا، ثم سنحميه من نفسه أخيرا.
وهنا المفرق.
٦-لا مشكلة في أن لا تحبوا حياتنا، ولا مشكلة في أن تعيبونا، ولا مشكلة في أن تروجوا لدينيكم، في الإعلام و الصحافة ونروج نحن لديننا لكن كأنداد، لنا الحكم في بلادنا ولكم الحكم في بلادكم، ويمكن أن نتكلم في المختلف عليه في قضايا البلاد و البحار.
٧-وسنتولى نحن شاطيننا و متشدينا ماداموا على أرضنا ولتتولوا أنتم شاطينكم ومتشدييكم على أرضكم.
لن يخسر الغرب الكثير بهذه، ولن يخسر المسلمون في هذه الكثير أيضا.
أما حالة النفاق الجمعية هذه فلا قيمة لها، ولن تجر إلا الأمن الزائف و الخداع، و الخيانات، وضياع الأجيال و الإقتتال.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"تحليل التراث الإسلامي"

هذا الذي جعل الألباب حائرة و صير العالم النحرير زنديقا