لا تعيدوا صناعة الإستعمار
هذا التعليق مشاركة في حوار بين بعض الشباب على الفيس بوك حول علاقة "النخب" و المجتمعات
=============
سأحاول هنا إن سمحتم لي التطفل على حواركم عن دور النخبة فيما يتعلق بتفكيك البنى أو الرؤى أو المفاهيم القيمية التي ينتجها المجتمع و التي إمتدح في إطارها أخونا الأستاذ زيدان الدكتور إعل الشيخ بوصفه أحد المثقفين الموريتانيين القلائل الذين أخذوا على عاتقهم هذه المهمة سعيا إلى تنوير المجتمع، أو على الأقل المتعلمين ممن سيقرأون عمله إنشاء الله حال خروجه.
سؤال حبيب الذي بدأ النقاش لا يبدو إعتراضا لا على هذا الدور القيم و لا على إمتداح زيدان لعمل أخينا الدكتور إعل الشيخ (الذي يذكر فيشكر نظرا لحاجة الساحة الثقافية إلى المزيد من البذل و الجهد، نتيجة الكسل الواضح للأكادميين الموريتانيين) وإنما تسائلا واردا، و الأسئلة تثري الحوار و تعمقه. يسأل حبيب أليس أيضا من الجدير أن يعمد شخص إلى تفكيك المفاهيم\القيم التي تبنيها (و بالضرورة تروج لها) النخب المتنورة و المثقفة؟ والمراد هنا، و يمكن لحبيب أن يصحح سقيم فهمي، أنه ينبغي ونحن في إطار التحليل و التفكيك أن لا ننسى أن نخضع القيم و المعايير، و المسلمات التي ننطلق منها لنفس القدر من الصرامة العلمية. فما الذي يجعل الأحكام التقيمية التي تنتجها النخب أحسن حالا من الأحكام القيمية التي هي تراكم لسنين طويلة من التجارب الجمعية لمجتمع معين تأتي مصوغة ومعبرا عنها في قالب ثقافي معين؟ أو ليست أحكام النخب و طرق تفكيرها هي ذاتها نتائج لعملية صياغة تثقيفية محددة تجعل صاحبها--على الأقل ما لم يمارس نوعا من إستكشاف الذات الباحثة، و سبرا دقيقا لأدواتها ومقارباتها الفكرية--شخصا ليس فقط متحيزا، حتى دون أن يعلم، بل و مجترا أيضا لنفس القيم التي أشبع بها فكره و عقله، دون فحص أو تمحيص؟ و الخطر في هذا حسب رأي و هو رأي شخص متطفل على هذا الفن، ليس في إبداء رأي مخالف، أو في إبداء نقد وارد أو غير وارد، وإنما في هالة (القداسة) العلمية\التنويرية التي عادة ما تصحب هذ النمط من النقد، بحيث يُنزِل الناقد ومن يلف لفه في دغمائية واضحة نفسه منزلة المتنور المعلِّم، و مخاطبه و موضوعَ بحثه منزلة القابع في ظلام من الجهل و التخلف يحتاج إلى أن يُخرج منها خدمة للإنسانية، وإشاعة للنور. وفي هذا و هو كثير في أعمال النخب--وخصوصا فيما يعرف بالعالم الثالث--عدم تواضع لا يليق بالعلم الذي يقتضي من صاحبه أن يقف من موضوع بحثه ومحاوره موقف التلميذ الذي يحاول أن يفهم، مع أن عملية دراسة شيئ معين تقتضي لا شعوريا و بالضرورة نوعا من تشيئ موضوع البحث و الوقوف منه موقف القاضي. وهنا حسب فهمي تقع مشكلة خطاب التنوير، الذي ينطلق و يتصرف و كأن الشمس لم تشرق إلا في سياق معين من الزمان و المكان.
وقد كثر الكلام و اللغط في هذا فلا حاجة بنا إلى إجترار ما قيل. وإن كانت تجدر الإشارة إلى أن هذ الطرح هو نفسه الذي بنيت عليه تبريرات الغزو الثقافي و العسكري فيما يسمى بعهود الكولنيالية (الاستعمار)، ومازالت تبنى عليه و إن بأساليب متفاوتة من الإخفاء و التمويه في عصرنا هذا أو ما يسميه البعض بعصر الكولونيالية الجديدة.
و المفارقة أن النخب المدرِّسة--وقد ينوب إسم الفاعل عن إسم المفعول--في الدول التي خضعت في الماضي للإحتلال الغربي، و التي و قفت في وجه الفكر الإستعلائي للغرب، أعادت إنتاج ممارساته و هو ما تنبه له الكثير من الباحثين في مجال التنظير حول الصراع مع الكولونيالية. ولأهمية هذه النقطة التي أرى أنها قد تثري الحوار هنا سأختتم هذا التعليق المقتضب بشرح مبسط لهذا المفهوم.
ولأضع كلامي في سياقه دعاني في البداية أعرض بشيئ من الاختصار إلى مبادئ التنوير.
ينطلق مشروع المهمة التنويرية و هو الإسم البراق لكلمة الإستعمار من مجموعة من المفاهيم منها:
أولا: أن البشرية متمثلة في روادها في الغرب دخلت ما وصفه البعض بالزمن الأجوف\أو الفارغ empty time
أي أنه زمن فكري لايتعلق بشيئ خارج منظومته البشرية، فكل ما هو مستوحى من خارج هذه السياق الزماني مجرد تخريف. بمعنى آخر، إن هذا الزمن زمن دنيوي لا يقر بوجود الآلهة و لا يعبأ بها، على الأقل فيما يتعلق بتعامل أهله معه و مشاكلهم الحياتية فيه.
ثانيا: إن الوعي بهذا الزمن الفارغ هو الذي يسمح بالإنطلاق في اكتساب "العلم" وفهم نواميس و قواميس الطبيعة كما يمكن، دون أحكام ميتافيزيائية.
رابعا: إن القدرة على تذليل الطبيعة و فهم قواميسها، و النجاحات التي لوحظت في ذلك السياق، هي أساس حياة الإنسان، وهي جوهر خلاصه من العجز و الفاقة، ومن أمهما الشريرة: الخرافة. إن هذه القدرة ليست إلا تجليا للإستخدام المتجرد للعقل (المتجرد من حيث أنه غير معوق أو مكبل بأي شيئ من خارج أطره).
خامسا: و لأن الخرافة وظلامها الدامس أزيحا بنور العقل فإن هذا الزمن الفارغ هو زمن النور. و على هذا فإن من تحرروا من الخرافة وأبصروا النور ومارسوا العلم و أختطوا طريقه، هم قوم قد بلغوا سن الرشد و لذا وجب عليهم أخلاقيا أن يتولوا رعاية غيرهم حتى يبلغوا الحلم.
طبعا لم تكن هذه هي فحسب الأسس التي إنبنت عليها قيم الزمن الأجوف، و لا هذه كل أبعادها، لكن الحديث عن مضامينها و أبعادها يأخذنا إلى أمور لا ترتبط بالموضوع إرتباطا مباشرا. غير أن النقطة الخامسة أعلاه أساسية ولذا سنعرض لعلاقتها بالموضوع.
لقد إنطلقت القوى الإستعمارية، على المستوى الفلسفي التنظري، وليس بالضرورة على المستوى العملي الإجرائي، من النقطة الخامسة هنا. فمن أجل نشر النور و رعاية الآخرين حتى يبلغوا الحلم، غزيت بلاد و أرغم أهلها على العيش تحت "نور" الاستعمار. و مادخل الأربيون بلادا قالوا علنا إنهم جاؤوها لكي يظلموا أهلها و يسرقوا ثروتها. بل كان كل الحوار و النقاش المعرفي حول الإستعمار هو حوار حول تنوير الناس، و إنضاجهم لكي يمارسوا حماية و رعاية و تنمية أرضهم بأنفسهم. بمعنى آخر، إن الاحتفال بالإستقلال و إنهاء الإحتلال ينبغي أن يكون حفلة يهب فيها الراشد لمن مارس رعايتهم ردحا من الزمن شهادة البلوغ وحق الدخول في معترك البالغين "التاريخ". وفي إنتظار ذلك الوقت ينبغي على الأمم المحتلة، ممن لم يبصر أهلها النور و لم ينجحوا في هزيمة الظلام، أن يجلسوا في غرفة الإنتظار
(History waiting room)
وقد كان حوار مناهضي الإستعمار مع مستعمِريهم على المستوى الفكري، و حتى على مستوى العمل المسلح نوعا من محاولة تكذيب فكرة أنهم (أي المستعمَرون) لم يبلغوا الحلم بعد وأنهم ما زال يتوجب عليهم الوقوف أو الجلوس في غرفة الإنتظار.
وبما أن التاريخ و الزمن الأجوف الذي يسير فيه هو زمن دول قومية، و بما أن الدولة القومية كيان من الناحية التنظيرية يعيش حياته كالفرد، يمتكل إرادة، بل ووعيا مشتركا، موحدا، فإن تكذيب هذه المقولة يعني ضمنا أن الأمم التي تتحدث عنها الدول الساعية للإستقلال هي أمم ناضجة في كيانها الجمعي، موحدة الوعي في ذلك، لا تحتاج إلى رعاية و لا تربية، و لا إلى أحاديث أبوية، من النوع الذي أراد لها الإستعمار أن تنصت له. وهذا يعني من بين أمور أخرى، أن هذه الشعوب و نخبها تعيش في نفس الزمن الذي تعيش فيها دول الإحتلال، ولذا ففكرة غرفة الإنتظار نشاز ينافي في أحسن الظروف الواقع، و في أقمئها عمل ظلامي يخرج عن نواميس زمن النور، المبني على إرادة التحرر.
و بالفعل حصلت الكثير من الدول سلما وحربا على شهادات استقلال. لكن، و هنا تكمن المفارقة، ما إن حصل هذا حتى إنشطر الزمن الوطني، التحرري إلى قسمين.
the concept of double time
فالوطن لم يعد ذلك الكيان البالغ، الذي حارب من أجل أن يعترف البالغون (الآخرون) ببلوغه، وإنما جسدا يعيش زمانين مختلفين: زمان النخب، وزمان العامة. فإذا كانت النخب قد بلغت، فإن العامة لما تبلغ الحلم، ولذا وجبت رعايتها. وأول الرعاية هي أن يقف البالغ المثقف موقف الناقد ليقول للعامة هذه أخطائكم، و هذه مظاهر صبيانيتكم، و عليكم إصلاحها لكي نستخرج لكم شهادة بلوغ.
و الشاهد هنا أنه ينبغي أن تتجنب نخبنا وهي تسعى لتنويرنا كعامة، أن تقف منا نفس الموقف الذي و قف الإستعمار منا و منهم، وإن كانت لا بد فاعلة أن تعي على الأقل أنها تقف على نفس المنبر و أنها تخطب نفس الخطبة.
هذا تبسيط أرجو أن لا يكون مخلا، ومساهمة متواضعة في حواركما أرجو أن تقبلاها بسعة صدر.
تعليقات
إرسال تعليق