٢٠٠٣ ليلة و ضحاها
- انقلاب 2003
- 1-ليلة الإنقلاب الأولى
- كان مؤشر الساعة يشير إلى الواحدة و الربع فجرا و كنت قد غلبني النوم و أنا أطالع عددا من أعداد إنيوز ويك تقرّب إلي به مغامر غاني دخل موريتانيا فقيرا متواضعا و سيخرجها لا حقا فقيرا مغرورا بعد أن أصاب من النشب حظه، ثم رمته يد لا ينفع معها يلب و لا درق.
- أيقظني صوت هادئ يقول يا أحمد نمت قبل أن نتعشى. إنه صديقي محم (سيدي محمد). و نعم الصاحب شاب ذو أخلاق رفيعة، متواضع، صبور، جواد، جلد. جمعتني و إياه صروف الزمن في "بقالة" في مقاطعة لكصر، هي عمله الرسمي و حرفته التي أتقن، و هو عمل فرضته علي الظروف بعد التخرج. كانت عملا أمارسه في الليل و أمارس هوايتي المفضلة في النهار (أحلام اليقظة).
- رفعت رأسي فإذا به قد أحضر أرزا و دجاجا و خضارا و قال مع إسم الله هذا إسمه طعام المؤمن (يلمّح إلى قصة كنت قد حدثته بها عن جيران في روصو (في الصطّارة) ليس هذا محلها)، فقلت بسم الله و نعم الطعام.
- ثم أردفت، على سبيل المزاح، قائلا إن كان لذيذا سأمعن في البطنة و أتجاهل أثرها على الفطنة، و إن كانت الأخرى فحسب إبن آدم لقيمات.
- ما إن وصلت إيدينا إلى الأكل حتى بدأنا نسمع أصوات عزف لا يطرب.
- بالفعل لم تكن إلا لقيمات رغم أن الطعام كان غاية في الإتقان، و لا غرو فقد كان سيدي محمد من من يتبع السنن في الصنائع.
- لم تكن إلا لقيمات لأن الموسيقى التي كنا نسمع كانت تزداد صخبا و إزعاجا، و قربا.
- قلت لصاحبي ما تراه يجري، فقال لا شيئ، ما أراه إلا (حس أبيتار يخبطوه تركت تفرغ زين الكلشانين) أصوات ألعاب نارية يعبث بها أبناء أصحاب الحظوة ممن لا عمل له و لا علم و لا خلاق.
- إبتسامة، قهقهة، ربما هو ذاك. إن الشباب و الفراغ و الجدة...
- كانت تلك طبعا إحدى اللحظات التي يرد فيها إبناء الفقراء الجميل لأبناء أصحاب الحظوة، على طريقة إن تسخروا منا ...
- لحظات وترتج جدران البيت، ثم يخرج جارنا الشيخ المتسول المؤدب، الذي يحرص على أن يصحو قبل صلاة الفجر ليتربص بأثرياء الحي ممن يقيم الصلاة السبل، يلبي داعي الله و لا تأخذه في الفجر سنة نوم، و إن كان كثيرا ما تفوته الصلاة وهو في خصام مع شركاء المهنة على تقسيم ما أفاء به من يشار إليهم بالبنان من أهل الحي. فقد تعلم أثرياء الحي أن أسرع طريقة للتخلص من هؤلاء هو أن ترميهم بورقة نقدية صغرت أو كبرت ثم تقول لجمعهم تلك لكم.
- الشيخ خرج يتثائب و يتسائل ما هذا؟ خرج إليه زميلي ثم أعاد له نظريته التي قال لي آنفا، إنما هم أبناء أغنياء ساقهم البطر ودفعهم الغرور لللعب بالنار. قذف الشيخ بحمم من اللعنات على كل بطر لا يأمن بالله و اليوم الآخر، و راح يذم أهل الغنى و يمتدح أبناء الفقراء، وقد و الله أبلى بلاءا حسنا فقد أظهر من الحذق في ذلك الفن مالم تبن زوج أبي زيد السروجي في سبها لزوجها أمام قاضي تبريز.
- كان ما يزال الكرى يسري في العروق، ولذا قررت أن صولتي مع الأرز ستكون في الغد، وإن غدا لناظره قريب. غسلت يدي، نظفت أسناني، ثم رجعت إلى فراشي و كان سيدي محمد ما يزال يغري الشيخ بأبناء أهل الحظوة بأسلوب لا يعرفه إلا من عرف سيدي محمد. كان يقول: أبي الكريم، لا يحسن ذا بك (ماه فالك)، لا تلعن فإن محمدا لم يبعث لعانا، و هؤلاء أبناء المسلمين، فلا ترمهم في السّحَر بقواصم الظهر، فإني أتوسم فيك إجابة الدعاء و لعل الله أن يريك فيهم ما تحب.
- لم تزد مواعظ صديقي الشيخ إلا غضبا على عضب، و إمعانا في السب و اللعن. إختلط علي صوتهما بطرق قوي على الباب و جلبة من وراء ذلك، ثم لم يليبث أن أدخل سيدي محمد قائلا هذه ليست (بيتارا) ألعابا نارية، إن ثمة لأمرا جللا و حربا ضروسا، فهل أنت خارج لنستبين ما يدور؟
- أجبت و أنا بين اليقظة و النوم بل إذهب انت و جارك فتبينا إنا ها هنا نائمون...
- بات أهل نواكشوط ليلهم في أرق و قلق وقد قطع هدير الدبابات و لعلعة المدفعية هدوء ليلهم و بت قرير العين لا أجد إلا ما يجد النائم من حسن الرؤيا. و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها
2 - صبيحة اليوم الأول من الإنقلاب
فتحت عيني فإذا به-- إنه سيدي محمد أتى ليوقظني كالمعتاد، إنه يوم آخر وهم آخر، الرتابة شأن لا تخلوا منه حياة الحالمين، لكنه شيئ لا يضيّق عليهم أيضا.
لا إنه ليس ذلك الروتين، سيدي محمد جاء باكرا هذه المرة و كان و اضحا أن شيئا ما حصل. كانت تتهلل أسارير و جهه، وهو ليس بالرجل القطوب، لكن لم أره أشد فرحا من ذي قبل.
لم يزد على أن قال قبل أن يغادر، "أما آن لك أن تقوم لتعرف أي عالم هذا الذي أصبحت فيه؟"
خرج إلى البقالة و بعد هنيهة تبعته.
أمام البقالة كان يجلس الجار "أبو لحد" (ليس إسمه الحقيقي) على كرسي متهالك، فتح دراعته من الطرفين لتنفث الريح في جنباتها، لا قميص و لاحرج، يمرر يديه على بطنه جيئة و ذهابا ككهل من البنغال آراد أن يلفت إنتباه زملائه إلى آثار نعم الله ووجبات دجاج التندوري و البرياني التي تعدها ربة البيت. كان هاشا و باشا على خلاف الأيام السابقة، حيث غيب الوجوم إبتسامته، وقطب أسارير وجهه، وأدخله في خلاف مع أم العيال، زدحانة (ليس إسمها) التي كلما رمته يد الدهر ذكرته بجمالها و حسبها، و بجهله أيضا--"إدخلت إعل الله من ذا من لفسيد أل خالك لك": ترن كلماتها التي لا تتورع عن توزيعها عليه أمام الناس.
"بطل أنت دون شك" قال و هو ينظر إلي. قلت و ما بطولتي؟ قال "نمت و الناس في معمعمة كهذه. هذا يوم يعرف الرجال. وإن كانت العافية أحلى (العافية اممنوكة)."
طبعا كنت أسمع كلماته دون أن أتدبرها. كان ذهني قد شرد بي إلى صورة أخرى لأبي لحد غير الصورة الماثلة أمام عيني. قبل يومين كان أبو لحد في أسوأ أوقاته، مفلس، كما روى عن نفسه، يشكوا قلة الزبائن، أما اليوم فهو طرب، بطر. أبو لحد صاحب مهنة ربما لو عرّج عليها فقهاء القرون السابقة بفهم أبعد لعالم الإستهلاك و رأس المال الذي نعيشه اليوم، لحرمها المُوّسع قبل المضيق. قديما كرهوا بيع الأكفان خشية أن يتمنى من كسدت أكفانه نَفاقَها بين ظهراني المسلمين. طبعا أبو لحد رجل سلام، لن تسمع منه إلا نكته التي يجتهد عليها جيدا و التي لا يضحك فيها إلا كونها غير مضحكة، لكنه كثيرا ما تعلو محياه إبتسامة كتلك التي تعلوه الآن كلما جاءت سيارة و نعوا صاحبهم. إكتساب ٢٥٠٠٠ أوقية في ساعة أو نحوها ليس مما يعبس له وجه كريم.
على أصوات الرصاص و القذائف، وقصص الإقتتال بين فيالق الجيش، لا أحد يعرف بالضبط ما الذي يدور في رأس أبي لحد.
كان الكل يشعر بالقلق إلاّ أبا لحد، فإنه كان يعالج الضحك لحاجة يعرفها. يعلق بين الفينة و الأخرى على أصوات الرصاص هذا صوت كلاشنكوف، و ذلك سيمونيف، و تلك دوز ست، و ذاك مم مدفعية صدام، أما هذا فهو من قنابل عس راميل (الإسم الذي إختاره للكيان الصهيوني).
كان الجمهور--أنا و خمسة ألمودات (طلبة يطلبون العلم مع المعلم في الظل و الطعام نيابة عنه في الشوارع تحت لهب الشمس) وأحدى شهيرات الحي التي تخرج للمرة الأولي في وضح النهار، وطالب من طلاب محظرة أشهر علماء موريتانيا القريبة من المكان--يتحاشى إنتقاد ضحك أبي لحد في هذا الوقت، إلى أن أتت "ماهي دايرتهم إف شي"، بائعة البيصام التي من كثرة معاكستها لأبي لحد صارت ثالث ما تتعوذ منه زدحانة بإستمرار ( الفقر-إتبرت-، و جهل أبي لحد، و ماهي دايرتهم إف شي، بذلك الترتيب).
كان أول ما فعلته ماهي دايرتهم إف شي، هو أن إتهمت أبا لحد. "تضحك لأنك ستجد فرصا، مصائب قوم عند قوم فوائد،" قالت ماهي دايرتهم إف شي و هي تشير إلى الحاضرين أن "أنظروا إلى إبتسام هذا المغفل." حاول أبو لحد أن يتجاهلها، لكن ماهي دايرتهم إف شي لا تهزم بسهولة و أبو لحد يعرف ذلك جيدا.
بسرعة و بعبقرية واضحة قرر أبو لحد، الذي فهم أن ماهي دايرتهم إف شي لن تألو جهدا في أفساد فرحه، أن يغير نظرية ما يحدث و النظر له. رفع جواله لأذنه و تظاهر أنه في حوار مهم، تكلم كلمات مكسرة بلغة لفرانك، ثم أتبعها بما يشبه لغة الإنجليز، قام من المقعد، و خطا خطوات مبتعدا عن الناس، ثم عادا مسرعا. "ألم أقل لكم، هذه ليست حربا بين الجيش، وهذا ليس إنقلابا، إنه عمل إرهابي تموله ليبيا، وأصحابه يُخرجون من معاقلهم الأخيرة." قال بنفس الثقة و النبرة التي تكلم بها قبل شهر و هو ينكر لزوجه زدحانه أي علاقة له بماهي دايرتهم إف شي غير علاقة مشتري إمبصام ببايعته.
في هذ اللحظات خرج سالنتور، أخو أبي لحد الأصغر من البيت، و هو يشر بكلتا يديه، راسما مجموعة من الأشكال الهندسية حول رأسه و صدره. فهمت أنه يقول أنني مجنون. تلك تحيته لي كل يوم. في بلد أبتلي بمليون ونيف من الشعراء و بتقارير الوكالة الموريتانية للأنباء من عصر الأسئلة الموجهة للشباب، إلى أيام الدفاع عن المذهب المالكي و الحرب على الخوارج، و المنقبات، وحملات الكتاب و أ هيه وأهيه أمل، لطف الله بسالنتور فحرمه خواء الكلام و رزقه دقة الإشارة، فصار يشير ويشار إليه.
تقدمت إليه و عانقته فقد أحببت فيه شعره الصامت، و الجهد الكبير الذي يبذله لكي يُسمع الآخرين ما ينوي قوله. معا خطونا إلى داخل البقالة. كان سيدي محمد قد صب كأسه الأول، شربته على عجل و دلفت إلى الجانب الآخر، إلى كابنة الهاتف لأتصل و أطمئن على المعارف و الخلان. أجذب الباب فإذا بيد من الداخل تنازعني إياه. بالفعل كان مشغولا. شخص ما يجري إتصالا. جلست على المكتب الذي بجنبه أنتظر، لم أسمع كل ما قال لكني لم أستطع أن أغلق أذني في وجه بعضه. "نشاهد في هذه اللحظات تجمع أعداد معتبرة من رجال الامن و سط المدينة و إجراءات أمنية مشددة حول المقار الرئيسة، كالإذاعة و التلفزة. ونحن نسمع الآن قتالا محتدما في وسط المدينة قرب القصر الرئاسي…أمامي الآن تمر مجموعات من… الخاصة صاحبة القبعات…"
خرج الرجل يتصبب عرقا، وتقدم إلى سيدي محمد ليدفع كلفة المكالمة. قال الأخير، لقد تعرقت، يا إلهي. أجاب الرجل هذا اليوم شديد الحر. قال صديقي: "(ما يسوّل) لا غرابة فهذه الشمس و عدم الإستقامة لا يمرا سدا(هذا من إخطيم الواد ماه لاه يمش بذيك الحال)" قالها وهو يتظاهر بأنه يلقي درسا فلسفيا عن أشياء خارج السياق. إستلم الرجل فارق الصرف و أدار ظهره لصاحبي متوجها إلى الباب، قبل أن يخرج وقف وألتفت ثم ردّد العبارة (هذا من إخطيم الواد ماه لاه يمش بذيك الحال). تبادلا النظر لثلاثين ثانية بدت كأنها ردح من الزمن. فور إنصرافه إنفجر سيدي محمد بالضحك.
لم أستطع أن أتصل على الهواتف النقالة محليا، فقد كانت شركتا الهاتف الجوال الموجودتان في حالة زحمة مزمنة. اتصلت على خالي الذي يسكن حينها في السنغال، أخبرته بالوضع و بالنظريات المتداولة بما فيها نظرية أبي لحد الجديدة، وما نمى إلى سمعي من شهادة الشاهد الذي كان لتوه في كابنة الهاتف، مع ما يلزم طبعا من التجرد.
صادف خروجي إنفجار سالنتور بالضحك، قلت خيرا يا أبا الحروف--كنيته التي أمازحه بها--أشار ألم تسمع ما قاله سيد محمد آنفا إنه مضحك. سألت سيد محمد وما ذا قلت من بعدي؟ أجاب لا شيئ، إنني لتوي نجحت بعد إلحاحه في تفسير الموقف مع المراسل الذي كان هنا قبل عشر دقائق.
اصطنعت إبتسامة فارغة كإبتسامات أهل المدن الحديثة، وأشحت بوجهي إلى سيدي محمد. كنت قد عزمت على الذهاب إلى وسط المدينة لأرى ما يجري ومن ثم متابعة طريقي إلى البيت عند الكيلومتر الثامن على طريق روصو. أخذت مبلغا متواضعا من المال من سيدي محمد و يممت وجهي نحو الطريق. كان ثمة جمع من النساء و الولدان و كان حركة السير تكاد تكون منعدمة. توقفت سيارة، و أخرى، ثم أخرى. حاولت الركوب في الأولى لكن إحدى النسوة اللاتي أوتين بسطة في الجسم و جرأة في الإقتراب من غير المحارم ضربتي بمرفقها حتى مادت بي الأرض. أنتظرت الثانية و الثالثة، فلما لم أجد فرصة للحصول على مقعد دون حرب ضروس، لملمت ماتبقى من كبريائي و بدأت السير مشيا على الأقدام…
تعليقات
إرسال تعليق