أمة المتناقضات
في معظم بلاد العالم تكتسي الحركية و الحيوية
طابعا إيجابيا. فالحركة تعني التغيير نحو الأفضل والمزيد من العمل و الإتقان. في
معظم بلدان العالم يعني الحراك سياسيا كان أو إجتماعيا تجديد الأفكار، و تغيير
الواقع.
أما في بلدي، فالحركية علامة على التأزم، والركود...
53 عاما من الحركية السياسية و الإجتماعية، من الخطابة و الكتابة، من الشعر و
النثر وبهرج القول، لم تنتج إلى مجموعة من الإنقلابات، والهزات السياسية و
الإجتماعية التي يشبه يومها أمسها...فلا شيئ على الإطلاق يتغير عندنا، مع أن كل
شيئ يتغير من حولنا بإستمرار...نحن البلد الوحيد في العالم الذي ينتظر إنقلابا
كلما ودع آخر...نحن البلد الوحيد الذي تصفق فيه النخب المثقفة للمنقلب ولمن ينقلب
عليه، وتوفر لكليهما الحجج الفكرية و النظرية، فحالما ينقلب هذا من أجل الإصلاح،
مدفوعا بالغيرة على قيم البلد ومصالح أهله...فإذا به يرحل منقلبا عليه لأن مصلحة
الشعب وقيم البلد إقتضت حركة "تصحيحية" من ذلك النوع....أي عبث
هذا!!
نحن الشعب و النخب الوحيدة في العالم التي تصفق
وتزمر للصوص المال العام والخاص رغبا أو رهبا... نحن ربما الشعب الوحيد الذي لاشغل
له سوى السياسة، على نغمات أخبارها يخلد للنوم و على إيقاعها يستيقظف في الصباح...
نحن الأمة الوحيدة التي تلعن القيادة السياسية، وتعلن فشلها لحظات بعد وصولها إلى
سدة الحكم...نحن نلعن الحكام المنقلِبين، و المنقلًب عليهم تماما كما نلعن المنتخبين
و من إنتخبهم...نحن أمة تعلن.... ونحن أمة تصفق...نحن أمة من التناقضات....
كل ما قدمه حراكنا السياسي ونخبنا المتعلمة و
الجاهلة، هي مجموعة من الإنقلابات سقط بموجبها إنتهازون من سدة الحكم على وقع
الشتائم و الدعاء بالويل و الثبور....وجاء بموجبها إنتهازيون آخرون على إيقاع من
التزمير والتصفيق وسط زوبعة من الوعود الكاذبة الخادعة....طبعا قبل أن نودع هولاء
وألسنة من كانو يمدحونهم، رطبة باللعنات عليهم و بالإطراء على من إنقلب عليهم.....كل
حكامنا لصوص محترفون، وهم—كلهم—أنبياء مخلصون، جاءو من رحم ثقافة حربائية ذات
حقيقة مزدوجة، في ظاهرها ثوب منمق من الورع الديني و القيمي المفتعل وهالة من
الدعاية تكاد تخفي عهر ألفاظها، وهي في باطنها أنانية و نرجسية لا تعرف الحدود و
لا النهاية...
كتابنا منقسمون بين من يكيلون المديح لكل شيئ،
ومن يصبون اللعنات على كل شيئ وعلى اللا أشياء أيضا. فهلاء يمدحون الحاكم عندما
يخطأ وهؤلاء يلعنونه عندما يصيب...من ركبوا عجاج اللعنات لا يرون في الكون إلى
السيئ و ما هو أشد سوءا، فكل من عمل في إدارة حكومية أصبح في أعينهم سارقا وغشاشا
حتى قبل أن يباشر في مزاولة عمله... أما من أدمنوا الإطراء و التصفيق فهم في نشوة
لا تنغصها حشرجة المرضى، و لا بكاء الجوعى، فالبلد في أعينهم حولته حنكة أولياء
نعمتهم إلى ورشة عمل...
الشيئ الوحيد الذي يجمع المادحين و القادحين هو
خلو كلامهم المسموع و المكتوب من الأدلة، فهم يلقون الكلام على عواهنه بدون تحقق
أو براهين. يجهل هؤلاء و وهؤلاء حقيقة أنه ينبغي أن لا يمدح الناس إلا بالحق، كما
ينبغي أن ألا يذمو إلا على باطل...فمدح الناس بالباطل تحريف للحقائق و ظلم لمن
يعيشها، و الذم بدون علم قدح غير مببر في أعراض الناس...
نحن ربما الأمة الوحيدة التي تحارب الفساد،
بإنتقاء المفسدين وتتويجهم....نحن الأمة الوحيدة التي تدافع نخبها عن المفسدين في
الوقت الذي تصب فيه اللعنات على الفساد و آثاره على المجتمع....نحن الامة التي
يلعن فيها المجرمون الجرائم حتى وهم واقعون فيها....نحن المجتمع الوحيد الذي يربو فيه
عدد الساسة على عداد المواطنين...ولم لا، فبداخل كل فرد منا مجموعة من الأحزاب
السياسية قد تنازعتها الأفكار و شتتتها الأهواء…فقلوبنا تهفو إلى الشرق، وعيوننا
مشدودة إلى خيم البادية و رؤوسنا مملوئة ببطولات لا وجود لها إلا في عالم الخرافة
الواسع سعة الصحراء
تعليقات
إرسال تعليق