المساواة بين الجنسين، السعادة و الإنتحار
من الحسن دوما ونحن نسير على طريق معين أن نبحث عن من سلكه قبلنا وأن نعرف ما آل إليه حاله. ومن الحسن في عالم مليئ بالمظاهر أن نتحقق جوهر الأشياء.
عندما أستيقظ المسلمون لحال الضعف (التخلف كما وصفوه بالأمس ويصفونه اليوم) الذي يطبع حالهم في وجه ثقافة أقوى تقانة وأكثر إندفاعا للاكتشاف و التملك و السيطرة، طرحوا السؤال الوارد:
لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ فبين من ركز على البعد عن شرع الله، ومن إتهم الشرع بأنه هو السبب، وبين من رأى في الرجال خورا، ومن رأى مصدر هذا الخور في معاملة النساء، حبب إلى البعض دفع هذا إلى ما هو أبعد، إلى القول بإن عدم مساواة الرجل بالمرأة عطلت نصف المجتمع و علينا أن نحرره.
فكم طاقات ضيعت، وعبقريات أتلفت بسبب كبت النساء، وإضعافهن و تجهيلهن.
طبعا في هذا الكلام بعض الصحة، وله الكثير من الوجاهة، وما كان للأمة أن ترفضه عن بكرة أبيها. وهكذا أتت كتب قاسم أمين: "تحرير المرأة" و "المرأة الجديدة." كان الأول كتاب فقيه، و الثاني كتاب رجل خرج لتوه من مقهى، وربما أختلطت عليه الأشربة.
جمع الكتابان الكثير من الحقائق، و الكثير من التخريف، والكثير من القراءة المهلهلة للتاريخ.
أتهم الناس محمد عبده بأنه كتب الأول وأنه إنما دفعه لتلميذه المتغرب لكي ينشره بين الناس وتبعد التهمة عن شيخ الأزهر. ثم رأوا في صياغة وأفكارالكتاب الثاني دليلا آخر على صدق تهمة الإنتحال.
فشتان ما بين الكتابين في السبك ولشتان ما بينها في الإستدلال.
في الكتاب الأول دعا أمين إلى تمزيق الحجاب (و المقصود يومها ليس السترة الموضوعة على الرأس، وإنما فكرة أن يعيش النساء حياة بعيدة عن الرجال). وركز على أنه لا وجود لفكرة الحجاب في الشرع.
في الثاني لم يكن للشرع دور في التوجيه، بل كانت القدوة نساء فرنسا. طبعا، كان العالم يومها محتشما مقارنة بيومنا هذا. وكانت الأوربيات في الغالب متبرقعات متلفعات مقارنة بأخواتهن من عالم اليوم.
لك فقط أن تقارن صور طالبات الجامعات حينها وطالباتها اليوم.
مع كتب أمين بدأت فكرة "تحرير المرأة" بين المعارضين المتخوفين، و المعارضين المقتصدين، و المعارضين الغاضبين، و بين المؤيدين لكل ما يخرج عن الدين، و المؤيدين لكي لا يعيشوا تحت وصاية الآخرين، ثم المؤيدين من أجل أن يشبهوا الأسياد في كل رخيص وثمين.
كان هذا في بداية القرن العشرين، جربت نساء، رمي غطاء الرأس و تقصير ما على الأطراف من الملابس، ثم أتينها من تحتها ومن حولها، فضيقنها.
ثم حصلت ردة عن ذلك، فبرزت من قالت ماهذا شغل حرائر وما هذا بطريق أمة جادة. وهل لنا أن ندخل في كل جحر ضب دخلوه.
هذا في الملابس، أما في الأخلاق، فقد سار الركب على مراحل، بحثا عن كل ما كان لآدم، وما يكون لحواء، هل تساويه أم تكمله؟
أي حقوق أعطى لنفسه لم يعطه الله، وأي حقوق ظن أن الله أعطاه أياها، وما كان له أن يعطيها له، لأن الله عدل و العدل في القسمة مسألة تقرر بالعقل.
لم، وربما لن، يتوقف هذا النقاش. ولست هنا في معرض التقرير عن خيرية خيره ولا عن شرر شره. لكن أردت كما ذكرت أن نلقي نظرة على من ساروا في الطريق، فننظر كيف كان عاقبة سيرهم.
إن المجتعات الإسكندنافية (دول كالنرويج، و السويد) هي من أكثر الدول "تقدما" في مسألة التحرر هذه، وخصوصا في المساوات الإجرائية بين الرجل و المرأة حتى لم يعد ثمة فرق إلا بالجوانب الفسيولوجية.
وهي في هذا السياق تقف بعيدا عن بقية العالم الغربي الذي خار اندفاعه ولم يصل بعد إلى ذلك المستوى.
في السويد مثلا عملت الحكومات على أن يكون الرجل، و المرأة سواء بسواء، في فرص العمل و في فرص التعليم وفي الفترة التي يحق لهما، بل يتوجب عليهما أن يقضياها مع الأطفال. وتدخلت في أخص التفاصيل.
فالرجل تماما كمالمرأة يجب أن ينظف الأطفال و يلعب معهم، نفس القدر بالدقائق و الثواني.
فمثلا يقضي أشهرا متساوية مع الأطفال لكي تعمل الأم تماما كما تعمل الأم عندما تكون فترة شغل الرجل.
وقد أصبحت هذه الأخلاقيات التي سنتها الحكومات على هوى الشعوب التي أنتخبتها جزء أساسي من البناء السيكولوجي. وأصبح من المعتاد أيضا أن يتساوى الزوجان في حق الطلاق، تطلق هي أو يطلق هو، لا فرق، فالزواج يبدأ بقبول الطرفين لفكرة أن لا داعي للغضب إن قرر الشريك أن يخرج من الباب أو يتصل بالهاتف ليقول لقد قررت أن أطلق و أوكلت المحامي بإنهاء الإجارات القانونية.
طبعا من الهم التنبيه إلى أنه في مجتمع السويد مثلا لا يحصل الزواج في الغالب إلا فيما بعد الثلاثين، سواء بالنسبة للإناث أو للرجال. كما لا ينجب الأبناء إلا في هذه المراحل من العمر في الغالب.
لن أخوض في الآثار البيولوجية، و الوراثية على الأطفال، ولا على الآثار النفسية التي يسببها هذا للأجيال الصغيرة. ذلك موضوع آخر ومادة أخرى رغم أنها مرتبطة بالموضوع.
كما لن أتكلم عن مظاهر الوحدة المميتة التي يعيشها الآباء و الأمهات وهم يتلقون عناية مركزة من الدولة و تجاهلا و غيابا دائما من الأبناء في مراحل تقدم العمر وضعف الجوارح.
بما أن السويد مثلا من أغنى الدول، وبما أنها دولة خيرية، أي تتولى توفير كل شيئ للمواطنين، فمن المفترض أنه في عالم المساواة هذا يعيش الناس عالما من السعادة الغامرة.
الأرقام تقول غير ذلك. السويد هي الأولى من حيث نسية الطلاق، وقد تربعت على عرش نسب الطلاق في عالم ٢٠١٣ بنسبة ٥٥٪، ومع أنها ليست على قمة معدلات الإنتحار فإنها تعرف نسبة إنتحار كبيرة، تزيد على ١٢ في الألف.
طبعا المساواة التامة بين الرجال و النساء، خلقت بعض المعضلات النفسية، المضحكة، لكلا الجنسين. فالرجال الذين يرغبون في إظهار رجولتهم يتوجب عليهم إظهارها بتقمص دور المساواة مع المرأة و المرأة التي تريد التساوي مع الرجل تبحث عن ما يميزه كرجل. ولذا يبقى بين وضع الرِّجلِ ورفعها مهابط ومصاعد للمشاعر و الهرمونات.
السياق العالمي: في العالم الذي يتزايد فيه التحرر يزداد الإنتحار عالميا بمعدل ٦٠٪ في الخمسة و الأربعين سنة الماضية.
ثم إن محاولات الإنتحارات تبعا لإحصائيات منظمة الصحة العالمية تفوق بواحد وعشرين ضعفا أعداد الناس الذي نجحوا فعلا في الإنتحار. أي أن أعداد الراغبين في الخروج من العالم المتحضر يفوق بأضعاف مضاعفة عدد الراغبين في البقاء فيه.
وإذا ضفت إلى هذا من أبقوا محاولات إنتحاراهم أو تفكيرهم في الإنتحار سرا، فإنك أمام عدد هائل.
وعلى أي حال، فإن المعدل العالمي لمن ينجح في الإنحار كل سنة هو مليون. وهذا أكبر من ضحايا أي حرب في عام واحد، منذ الحرب العالمية الثانية وإلى يومنا هذا.
لا يوجد تفسير للانتحار: الدراسات التي أجريت على ما سميت عقدة السعادة و الإنتحار، أي كثرة الإنتحار في مواطن تعرف بالسعادة المادية، تظهر أن المسألة لا علاقة لها بما كان الناس يعتقدون سابقا من أن لها علاقة به، مثل القول بأن للظلام وقلة الشمس في بعض البلاد الغنية يد في الأمر.
فنفس العلاقة بين السعادة المادية و الإنتحار توجد في بلد مثلا كالولايات المتحدة التي تتمتع في معظم أجزائها بقدر معتبر من الضوء في معظم أيام السنة. وقد وضع الباحثون فرضية أخرى تقول أن الناس الذي لا يشعرون بالسعادة يعيشون بجنب أناس أكثر سعادة وهو ما يدفعهم إلى المزيد من الإكتئاب و إلى التفكير في التخلص من حياتهم.
قد لا يكون للطلاق و الانتحار علاقات مباشرة بواقع المساواة أو بطلبها أو بطبيعة النظرة التي ينظر بها العالم اليوم لعلاقات الرجال و النساء، إلا أن مجرد المساواة لا يخلق لا أسرا أكثر أستقرارا ولا مجتمعا أكثر سعادة.
إن مظاهر التحرر اليوم أكثر، ومظاهر السعادة اليوم أعم، لكن العالم يفتقد إلى جوهر هذين.
تعليقات
إرسال تعليق