A stop on the road


وقفة على الطريق

قصة من الواقع ببعض التصرف

فجأة أيقظوني وليتهم مافعلوا، قطعوا حبل مسلسل من الأحلام الجميلة، قطعوا رحلة في جنة من الجنان الخضراء، الغنّاء...وأعادوني إلى الواقع، إلى حيث كنت في مأخرة باص مهترئ. قم إنزل، قالوا. السيارة قد تعطل محركها. ينبغي أن نزيح عنها كل ما على متنها من حمولة و علينا أن نساعد في دفعها بأيدينا عل و عسى أن يستيقظ محرهكا.
الباص أعزكم الله،ولد في عهد نمرود بن كنعان، و بلغ الحلم في عهد إرم ذات العماد، وشاب قبل بعثة نبينا عليه أسمى الصلاة وأتم التسليم.
بعد عددة محاولات فاشلة دفعنا فيها الباص حتى خارت قوانا، وكدنا نقطع قدرا معتبرا من المسافة التي كان مفروضا أن نقطعها محمولين لا حاملين، مستريحين لا منهكين، قرر صاحبه العجوز ذو السبعين خريفا أن يتركنا و إياه حيث إنتهى بنا المطاف وأن يذهب إلى مدينة أخرى ليحصل على ما يراه ضروريا من قطع الغيار. 
كان الكرى قد هجر مقلتي، بعد ما بذلت من جهد، وبعد أن عرفت أننا في المكان معروسون إلى حين. بدأت أتحسس ما حولي و من بجنبي. ترائت لي بين المسافرين إمرأة تلبس ملحفة و تتأبط محفظة، فأنطلقت إليها و ألقيت عليها السلام، فأجابت بتكسر و أن عليكم السلام. فقلت في أي بلاد الله نحن؟ قالت أهذه أول مرة تسافر فيها إلى هذه البلاد؟ قلت أي نعم. قالت نحن قرب مدينة كذا--لا أذكرها الآن. قلت وكم تبعد الحدود من هنا؟ قالت تبعد أربع أو خمس ساعات. حسنا، يفعل الله ما يشاء.
تركتها ثم آويت إلى ظل شجرة لا هو بالظليل الوارف و لا بالمشمس المزعج. جلست هناك أستعذب النسيم، و أستطيب ما يصل إلي من أشعة الشمس، وأحمد لله على ما ووري عني منها. 
كانت الشمس قد زالت قليلا عن كبد السماء في يوم شتوي مرتفع الحرارة نسبيا. وكان أغلب الناس قد تجمعوا في كتل أمام المحلات القليلية المحاذية للطريق..
على مسافة معتبرة من الباقين كان بوسعي أن أترنم بما علق بالذاكرة من أشعار العرب، غزلا و حماسة و حتى فكاهة. لكن لذة هذه الخلوة كانت تنغصها مراقبتي كل أطراف الطريق كي لا يطلع أحد على ما أنا فيه فيتهمني بالجنون. 
و بالفعل لحظات الهناء تنقضي سريعا. هاهي ذي صاحبة الملحفة الملونة تذمل بإتجاهي.
أدرت ظهري، ثم أخرجت خلسة نسخة من رواية خياط باناما لجون لا كارى، وتظاهرت بأنني كنت أقرأها.
ما ذا تفعل هنا منعزلا، كأنك راهب أو مجنون: قالت؟
أولا يجلس وحده إلا هاذان؟ قالت نعم. قلت أقرأ بعض الأشياء. 
وهل تغديت؟ قلت لا لكن معي لبنا و خبزا، وإن كنت لست جائعا. 
أخرجت علبة من الكاتو و علبة من اللبن الظازج و ناولتهما إياها.
بدأت الحديث، أولا عن تجارتها، ثم عن مشاكل المجتمع كنت في كل ذلك أملأ الفارغات إيماءا باليد، أو نطقا باللسان، نعم، عجبا، أحقا، هذا ممتع، لم أسمع بهذا، يا الله، لا حول و لا قوة إلا بالله... كنت أفعل كل ذلك لأتظاهر بأنني أستمع و أهتم... ممتع حديثها دون شك لكن عيناي كانتا مشدودتين إلى شبح رجل كان يتبعها دون أن تدري... على بعد منا كان يهرول، ثم بدأ يخفف من سيره كلما إقترب منا، ثم على مسافة منا وقف. وبدأ يرمقنا شزرا. 
يبدوا في الخمسين من العمر وربما أصغر من ذلك، لكن الزمن و الغربة قد أنهكاه. عليه بقية مسحة من وسامة و نظارتين تضفيان على وجهه نوعا من الجدية، يكذبها عبث يديه بشاربه. كان ينظر إلينا كلينا ولكنه كان يطيل النظر إليها أكثر. 
فجأة إستشعرت أنني لا أصغي أليها فتوقفت عن الكلام و تنهدت و قالت، أنت لا تستمع إلي إطلاقا إنما سجل في ذهنك شريط تمرره على لسانك: نعم، ممكن، عجيب، سبحان الله... ما الذي تنظر إليه؟ قالتها ثم إلتفتت ورائها. 
حال ما ألتقت عيونهما، وعرفها قال بصوت فيه عضب ظاهر: أظننت أننا لن نعثر عليك؟ هيهات و الله هيهات، نحن نعرف البلاد و العباد و إدريس سائق السيارة التي تركبين فيها صديق لي. أيتها المومس الفاجر، أيتها اللصة... علا صراخها حتى ما عاد يسمع صوته، لقد كنت في الطريق ، إنك إمرأ فيك عجلة!
دخلا في عراك بالأيدي ظهر فيه أن الغلبة لها. رجعت لقصة خياط باناما وقد قررت أنها معركة لا تعنيني حتى ينجلي نقعها أو أشعر أن حياة أحدهما في خطر. رأى الآخرون غبار المعركة فأسرعوا إليهما و فرقوهما وأخذوهما إلى مكان ناء. ثم عرّج بعضهم إلي يسأل عن فحوى القضية. قلت وما القضية؟
قالوا أأعمى أنت؟ ألم ترى المرأة و الشيخ يتهارشان؟
قلت حسبتهما يتمازحان و يتداعبان. في الواقع كنت أود أن أعرف قصة المرأة و قصة الرجل الذي كان يتبعها و كأنه مطالب دين، أو رجل مخابرات غير مدرب. لكنني لن أعرف ذلك أبدا..
تبينت، وأنا أحاول إقناع بعض الكافرين بفكرة أنه لا علاقة لي البتة بالرجل و لا بالمرأة، ملامح إدريس و هو ينزل من سيارة على حافة الطريق، فصحت أن هلموا ها قد حضر السائق!
كانت لحظة نصر نشوتها لم تدم طويلا. لقد أجلوا عني و راحوا يعدون إلى إدريس. لكن إدريس بكل ما جاء به من المدينة ورغم كل جهود مساعده مامدو الذي لا يعرف الكلل أو الملل إلى عقله سبيلا فشل في إصلاح ما أفسد الزمن.
ساعة و ساعاتان و ربع الساعة، مرت كأنها عقد من الزمن...كنا نتخيل أننا نسمع صوت المحرك وكأنه بعث، ثم يعود إلى الصمت. 
أخيرا قرر أدريس أنه لا بد مما ليس منه بد. لقد إرتفعت أصوات الركاب، وتبرموا وكالوا له الشتائم. لقد أضعت وقتنا وأخرتنا عن مواعيدنا وكلفتنا مشقة المقيل في الشمس.
إنحرف إلى شجرة و صلى صلاة مودع، وحسب ما في جيبه من النقود مرتين أو ثلاثا، و عزلها إلى خمس مجموعات، ثم صاح على مامدو أن تعال!
في تأدة و بشيئ من الخيلاء نهض مامدو ذو الخمسة و العشرين شتاءا. فتى مفتول الساعدين، طويل شعر الرأس، متوسط القامة، كثير الصمت، طويل التفكير، تستشعر من حركته أنه شخص حساس، رغم تظاهره باللامبالاة، من رأى عينيه الغائرتين أستشف ورائهما أجيالا من الأحلام و الآمال المدفونة.
بجنب إدريس جلس مامدو، لا أحد يعرف فيم تداولا، ولا ما قررا، لكنهما خرجا من الإجتماع بإبتسامتين. إدريس تبسم و قهقه ومامدو تبسم ثم تقطب وجهه سريعا. 
جمع إدريس فلوسه ثانية و دفن بعضها في جيب جلبابه الطويل وبعضها الآخر في جيب بنطلونه. ثم طفق يتخطى الرقاب إلى أن وصل إلى إمرأة مسنة فأخذ بيدها وراح بها إلى الطريق وأوقف سيارة وأركبها فيها. عاد ثانية و فعل الشيئ ذاته مع رجل ثم إمرأة ثم إخرى و هكذا دواليك حتى لم يبق إلا ثلاثتنا: إدريس وأنا ومامدو. في كل مرة كان يختار فيها مسافرا كان يمر بجنبي ثم يحملق في وجهي ثم إن ألتقت عيناي بعينيه إبتسم، و تخطى إلى الشخص الذي يليني.
فعلها مرارا كما لو كان يلعب مع رضيع، قررت أن أبادل الإبتسام بالإبتسام... لبعض الوقت إنتقلت من التعجب بفعله إلى شيئ من الإستمتاع بااللعبة الساذجة، ثم بعد هنيهة بدأت أشعر بالخوف خصوصا عندما فطنت أنه لم يبق من الركاب إلا أنا و رجل أخذ بيده ليركبه في سيارة قد أوقفها على الطريق.
هم إذا أنا و مامدو وإدريس بثلاثتنا! 
يرجع إدريس إلى الباص، ويستدعي مامدو الذي ما أنفك يدخن منذ أن بدأ إدريس ماراتونه بن المسافرين و الطريق. يا إلهي فيم يتناجيان و على ما يزمعان؟؟ 
أوجس العبد الفقير في نفسه خيفة وبدأ يدعو الله دعاءا عريضا، أن أكفني شرهما أو مكني من رقبتيهما. 
إلتمست كل ما معي مما يشبه السلاح فلم أجد إلا قلما بديعا، حاد الرأس، كنت أضن به على الكتابة، لجمال مظهره. حسنا سأضرب بهذا إذا لا قدر الله أرغمت على الجلاد.
بدأت أفكر بأيهما يحسن أن أبدأ، أبالشاب ذي الساعدين المفتولين ثم إن أفلحت أجهزت على الشيخ مع إحترامي لشيبه، أم أضرب الشيخ أولا فأثير بضربتي الهلع في قلب الشاب و ربما هرب دون قتال؟؟ أولم يكن ذلك ما يفعل عنترة...
كانت الشمس قد أرسلت آخر أشعتها إلينا موذنة بنهاية اليوم، وبدأ ليل الشتاء يسحب ذيوله رويدا، رويدا، مغلفا كل ما حولنا بثوب أسود حالك.
أبطآ في الباص وراء باب مغلق، وبدأت أفكر في كل ما دار طول اليوم. الآن أفهم لماذا كان ينظر إلي ذلك الشيخ اللعين، تلك النظرات المخادعة، إنهم إستبقوني عمدا لعمل مدبر. ترى ما هو؟ ولماذا أنا؟ ما الذي يجعلهم يستهدفون طالبا مفلسا مثلي؟ لا شك أن ثمة شيئا ما جعلهم يستهدفونني. أهي حقيبتي الصغيرة ، أتراهم ظنوها ملأت ذهبا ودولارا؟؟
كم هما أحمقان! يزيد في فزعي أني تذكرت نظرية شرحها لي أحد ضباط الشرطة عن نظريات الجرائم: قال لقد ردسنا في علم الجريمة أن الجرائم في المناطق الحارة تستهدف الأرواح بينما في المناطق الباردة تستهدف المال. فكرت في المسألة مرتين، ثم هدّأ من روعي أن قلت في نفسي هذه من حماقات و عنصرية الأروبيين، ياإلهي لماذا لم أقل هذا للشرطي حينها. إنهم فقط يريدون أن يقولوا أننا نحن أصحاب البلاد الحارة متعطشون للدماء بينما هم فقط يريدون المال. أي حماقة هذه. عاد إلي الخوف و قلت مافائدة هذا الخطاب الأنتيكولونيالي (المناهض للإمبريالية)!
إن سألوا عن الحقيبة سأعطيها لهم، يال خيبتهم عندما يفتحونها! أوراق وبعض كتب و ملابس مبعثرة.
لكن سأحاول إستبقاء العطر الذي إشتريته بالأمس! ربما يقبلون بذلك. 
أختفت الأنوار التي كنت أراها على مسافة تنبعث من المحلات الصغيرة التي تتقسم فوضويا على جنبتي الطريق. كل شيئ حال ظلاما. كل الدكاكين أغلقت، وأطبق الصمت.
فجأة فتح الباب الخلفي للباص وإذا بإدريس يخرج أولا يتبعه مامدو. في كلتا يديه يحمل شيئا ملفوفا في ورق. 
إنها الكريهة إذن قلت في نفسي. لا مندوحة عن مواجهة الشخ أولا، فقد حسم هو الأمر بنفسه. ببطئ سارا نحوي، الشيخ في المقدمة و الشاب في المأخرة، كلما أقتربا كلما إرتسم في ذهني أن في إحدى يدي الشيخ سلاحا و في الأخرى حبلا ملفوفا في قطع من الجرائد. 
وقفت. وشددت يدي على القلم و قرأت كلما تيسر معي من الأدعية التي علمتني إيها الجدة، شعرها و نثرها، على عجل أمررها على لساني خشية أن يكون الذي لم أقرأ أزكى من الذي قرأت للتو. لا حظت أن المسافة بيني و بنهمالا تنقص، كدت أن أحسبها كرامة لولا أني لاحظت أن قدماي كانتا تسرقان خلسة خطوا لطيفا إلى الوراء. لعنت الجبن و توقفت. عدلت من وقفتي و أعدت النظر إليهما، لقد أصبحا قريبين.أحقا هذا، إني أشم رائحة البيض المقلي والشاي المنعنع. إنه العشاء إذن و ليست الحرب.
السلام عليكم و عليكما السلام!
بسرعة دسست القلم في جيبي، وصافحتها. 
هناك في الفضاء و على ضوء لمبة صغيرة جلسنا ثلاثتنا للعشاء، وخير العشاء بواصره. قال إدريس هل أحببت الأوملت؟
لقد عملتها خصيصا لك أردت أن أشكرك على أنك الوحيد من بين الركاب الذي لم يشتمني، و لم يضجر من ما حصل. قلت ربما كنت ألعنك في صمت فالله يستوي عنده السر و الجهر. ضحكت وضحك. كان مامدو لا يزال جاثيا على قطع الخبز التي لفت على البيض و البصل، و لم ينبس ببنت شفة طيلة الجلسة.
يرمقنا بين الفينة و الأخرى ويبتسم. 
إدريس كان غارقا في نقاش السياسة، يسأل عن الحياة في موريتانيا بعدالإنتخابات الماضية. أكانت حقا حرة؟ قلت إنها حصلت وأن الرئيس الذي كان متوقعا أن يفوز فاز وأن الآخرين إما في السجن أو في بيوت أهلهم ينتظرون فرصة أخرى. حكالي عن المختار ولد داداه و سينغور و عن الآمال التي كان يأملها من وراء عبد الله ود و التي تحولت إلى سراب. أنهم كلهم يكذبون! 
كنت أكثر التصديق حتى عندما أخالفه الرأي لأن الخلاف يحتاج إلى شرح و لغتي الفرنسية من البدائية بحيث لا تسمح لي بالإطناب.
مازحني وقال أي، بني، هاجر عن هذه الأرض فلا أمل فيها. لا تزرها إلا لماما، أستكثر من المال و تزوج أربعا فالحياة مع واحدة تقصير لا يليق بالرجولة، قالها و هو يضحك ويشد على يدي--كنت في هذه اللحظة أمرر على الذاكرة قصيدة لأعرابي 
جرب زواج إثنتين فقط و خرج بنتيجة مغايرة

تزوجت إثنتين لفرط جهلي        بما يشقى به زوج إثنتين 
فقلت أصير بينهما خروفا          ينعم بين أكرم نعجتين 
فصرت كنعجة تضحي و تمسي   تداول بين أخبث ذئبتين
رضى هذي يهيج سخط هذي      فما أعرى من إحدى السخطتين 
لهذي ليلة و لتلك أخرى             عتاب دائم في الليلتين
فإن أحببت أن تحيى كريما         من الخيرات مملوء اليدين 
فعش عزبا فإن لم تستطعه           فضربا في عراض الجحفلين

واصل الحديث، قال في أفريقا لا أمل في التغير، ثم طفق ينشد لمغن أفريقي:
كل شيئ يتغير، كل شيئ يتطور إلا الأنذال فإنهم لا تغيرون مطلقا
وقف وغناها بصوت شجي حتى كدت أن أميل من الطرب رغم ما لقيته من التعب.
في هذه اللحظة ألقيت نظرة على مامدو كان يغط في نمو عميق. إن السعادة لا تتطلب الكثير! إنما هو خبز و بصل وإلتحاف للسماء و إفتراش للغبراء.
قلت لإدريس إنني سأكون ممتنا إن وجد لي سيارة أغادر فيها، فلدي شغل هام لابد أقوم به في الصباح في موريتانيا. 
قال حسنا بني…راح إلى الطريق ومكث وقتا قصيرا و عاد لقد وجدت لك سيارة ستأخذك للشاتور، وسيصحبك سائق السيارة و يحجز لك على سيارة أخرى إلى روصو .
ودعته، ودفع إلي قطعة أخرى من الخبز محشوة بالبيص و البصل وأصر على أن آخذها. قلت أنا لست جائعا. قال ستجوع في الطريق وإلا فأعطها للقطط! قلت، القطط السينغالية أو الموريتانية؟ ضحك وقال إعطها لأيها شئت!
قررت أن الخبز و البيض لن يكونا من نصيب القطط ولذلك كان أو ل ما فعلت على السيارة الجديدة هو أن إلتهمت الصاندويشة. إنحرفت قليلا وأسلمت نفسي للنوم عل أن أعود إلى الجنان التي كنت أتجول فيها في الصباح.
8



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"تحليل التراث الإسلامي"

هذا الذي جعل الألباب حائرة و صير العالم النحرير زنديقا