خاطرة فيسبوكية


في بعض فترات العمر فرضت علي ظروف العمل-- مع رجل حببت إليه إذاعتنا المحلية --الإستماع إلى طبخات صباحية لولد التباخ. في بداية الألفية الجديدة كان ممن يستضيفهم أحد شيوخ الصوفية. كنت بعد ٢٠ سنة من التعامل مع لغة الضاد من العصر الجاهلي إلى أواخر العصر العباسي، شعرا في الغالب، ولكن نثرا كذلك، كنت بعد تلك الفترة أظن أن لي حظا لا بأس به من معرفة لغة العرب...طبعا كان هذا قبل أن أستمع إلى مقابلات، بالأحرى مداخلات شيخنا هذا. لم أفهم مما يقول الشيخ إلا ما أفهم من دردشات جيراني الصينيين فيما بينهم. 
كانت المفردات التي يتكلم بها الشيخ لا تزيد على العشرين، وكنت أعرفها كلها تقريبا كمفردات، لكن الطريقة التي يزاوج فيها الشيخ بين المفردات كانت بديعة و غريبة في الآن ذاته، كانت جمله كما وعتها أذناي تمزج بين كل غرائب التراكيب، فمنها ما يصدق عليه وصف علماء اللسانيات من بني الأصفر
syntactically good, but semantically odd
سليم المبنى غريب المعنى، ومنها ما كان غريب المبني عديم المعنى
ومنها طبعا ما يستحق أن يدرس...لو لم أكن أعرف أن رجال مخابراتنا نوم في الصباح لقلت أن وصف "الشيخ" مجرد تموييه وأن ما أستمع إليه في الواقع رسائل مشفرة عبر برنامج ولد التباخ. 
لكن بعد تتبع البرنامج لأيام متتابعة--طبعا مكره أخاك لا بطل--و حفظ تلك الرطانة رغم أن أذناي إستكتا منها مرة ومرات، تبن لي أن هذه الفرضية غير واردة فلا معنى أن يتم إرسال نفس الرسالة في كل صباح فلا يوجد تغير في النص، و هذا يعني أن المحتوى لا يتغير. وبالفعل مازلت أربأ بتقارير رجال و سيدات مخابراتنا أن تكون كتقارير إجتماع مجلس الوزاراء: 
"وقدم وزير الداخلية عرضا عن الحالة في الداخل، وإستمع الرئيس إلى ....إلخ"
في كلام الشيخ تسمع عن تكور نور النور و إنسكابه طوفانا حلكوكا في مجاري اللاوجود، وعن إكفهرار النار و عن غوصها (وليس إرتفاعها) كالدخان، تسمع عن وجود الوجود بدون وجود الموجود، ثم عن حياة الميت في موت الحي، و عن فتح الفتح لأبواب الفتح المفتحة قبل الفتح، وغير ذلك، مما لم يشرح الشيخ يوما وكأن لسان حاله يقول:
علي نحت القوافي من معادنها و ما علي إذا لم تفهم البقر
وما أكثر الأبقار في هذه الحالة...
أو ربما كان الشيخ في كلامه ينحو طريق من قال
to be great is to be misunderstood
العظمة في أن يسيئ الناس فهمك
ثم بالغ في هذا النحو حتى أصبح أولى أن يقال عنه
to be great is to be completely incomprehensible 
العظمة في أن لا يفهمك أحد أصلا.
اليوم وأنا أقرأ بعض كتابات أخوتنا من من شرح بالعلمانية صدرا، ومن من يتصيد مثالب المتدينين، و هفواتهم في الفضاء و على الأرض، رأيت من التناقضات ومن الغموض الذي يدفع إليه خواء الفكر، وتعمد تضليل القارئ، ومن يرحمك باط يالموجب (وكنت إذا ما جئت جئت بعلة فأفنيت علاتي فكيف أقول) ما أعاد إلى الذهن طبخات هذا الشيخ في مرجل بن التباخ.

كلانا عالم بالترهات...

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"تحليل التراث الإسلامي"

هذا الذي جعل الألباب حائرة و صير العالم النحرير زنديقا