خاطرة بمناسبة مرور عقد من الزمن على سقوط بغداد


==
ما ذا أقول عن العراق، ولم يمت في العراق بشر إلى شيعته بعبرة و حسرة (إلا صدام حسين فإني لا أعرف التعبير عن الشعور فلا هو فرح و لا هو ترح، فما يدعوا للفرح كابوس، وما يقود إلى الحزن يبعث على الأمل) ولم تحترق نخلة إلا أحترق معها جزء من كياني. ولو قدر لنفس أن تموت قبل أجلها لكنت مت من توجعي لآلام أهل العراق.

نحن في موريتانيا أشربنا حب العراق، كما مرد بعض الأعراب على النفاق، وكما ساغ في قلوب المؤمنين الإيمان. فشيئان لا يجتمعان: العيش في موريتانيا و بغض العراق. حتى أني لا أشك أن إذا عتنا الوطنية كانت تلعن ذاتها و تتبرأ من نفسها عندما كانت في بعض الأوقات المظلمة -من حكم و لد الطائع -- الذي كان قد طال عليه الأمد حينها--تعلن عن قطع العلاقات مع العراق.

***
يوم سقوط بغداد. يوم لا ينسى و جرح لن يندمل. كان بداية حقبة لم تتحدد معالمها بعد و نهاية لحقبة من الترف إضاعة الوقت في الحديث عنها.
***
كنت يومها مع صديق عزيز في مكتب للترجمة وسط إنواكشوط.. كنا كغيرنا من أهل موريتانيا نتابع أخبار العراق أولا بأول. كان وقع الخبر كالصاعقة علي. صديقي كان أكثر رباطة جأش. واصل الإستماع إلى البي بي سي وولد سرفس (القسم العالمي بإذاعة البيبيسي). كنت أسمع-- و أنا لا أصدق الخبر--أحد الصحافة البريطانيين يقول أنها طعنة في كبرياء الإنسان العربي. 

و أي طعنة هي و الله!

لم أعد أتحمل صوت المذيع فخرجت و طفقت اهيم على وجهي لا أدري إلى أين إلى أن انتهي بي المطاف من حيث لا أعلم عند بيت أعلاه مسجد وأسفله حانوت. صعدت السلالم درجا درجا--توضأت لضحى هاجر، أحسست كما لو أن برد الماء و ظلمة المكان يخلصاني شيئا فشيئا من شعورين رهيبين كانا يختلجان في كل عقلي الواعي ... شعور رهيب بان الحياة، بأحيائها وأمواتها، ترمقني بعينيها بمزيج من التشفي و الرحمة كما لو كنت جبانا رعديدا يفر من ساحة حرب، مهزوما لا يلوي على شيئ، وإحساس بغضب جارف كأن كل ذرة في جسمي تحولت إلى إشعاع.

سلمت وسط وصت بانوراما من الأصوات المتناقضة، أصوات شخير مجموعة من عباد الله المشردين الذي وجدوا في حنايا بيت الله ملجأ من حمارة القيظ، و ضوضاء السيارات، ومكبرات الصوت المنبعثة من محلات بيع الأشرطة، بوعظها و طربها:
فمكبر الصوت هذا قد منح سيدة الغناء العربي الفرصة لكي تدخل الجوقة وهي تغني --هذه ليلتي و حلم حياتي--و في ذلك المكبر الآخر، باحت مغنية محلية بحب لم تكن لتكتمه في أرض الجمهورية الإسلامية، لرجل "شارب من ويسكي راكب تيرتاره" (ثمل من الويسكي ييمتطي دراجة نارية)، ومن مكبر آخر صدح أكثر الشيوخ الموريتانيين إثارة وعمقا على بساطة لغته و عدم تكلفه، ليذكر الموريتانيين بأن تكبرهم في غير محله، فهم إستوردوا وما زالو يستوردون كل شيئ، من فقه إمام دار الهجرة، إلى أعواد الثقاب، ومن مكبر آخر أنبعث نعيق رجل يغني غناءا يصدق عليه قول الموريتانيين (طبل السنادرة ما ينهول و لا أفكد بمولانا)، طبول الجيش لا هي تطرب الخلق و لا هي تذكر بعظمة الخالق. أغلقت أذني بإحكام--تحسست نعلي عل أن تكونا مازالتا في مكانهما عند الباب، ففي ذلك المسجد تختفي النعال بنفس البساطة و السلاسة التي يختفي فيها المال العام في البلد، لا عين رأت و لا أذن سمعت، ولا يهم ان كان خطر على قلب بشر. 

بعد هنيهة كنت في بغداد و قد تبدلت الحال غير الحالي. لم أكن أفر في هذه المرة بل كنت أركب فرسا أبلقا، وكانت بغداد قد انهت حدادها وقامت من كبوتها، كان الناس قد خرجوا في أبهى الحلل إلى شوارعها آتين من كل حي و من كل صوب، كأنهم يحتفلون بقدومي، أو كذا حدثتني نفسي، كان شعورا رائعا...بين الزغاريد، و صيحات الفرح كنت أبحث عن صوت جوهري يتسلل إلي، على أعرف معزى الفرح، لأنني لا حظت أن العيون لم تكن مشدودة إلى كما فكرت أولا...
آه يا إلهي إنهم

يحتفلون بتحرير الأقصى... فترقبوا هذا! نحن أمة لا يمكن أن تدفن الآلات احلامها! 

كنت فعلا قد تجاوزت البيت و كان الأعياء قد أخذ مني مأخذه وإن كنت لم أشعر أني قطعت خمسة أميال على الأقدام.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"تحليل التراث الإسلامي"

هذا الذي جعل الألباب حائرة و صير العالم النحرير زنديقا