بما ذا يحكم التاريخ لو تنازل مرسي
ما ذا لو تنازل الرئيس مرسي عن الحكم. أليس في ذلك حقنا للدماء؟ ولم يصر الإخوان على السلطة إن لم يكونوا طلابها؟ هذه خلاصة كلام أثاره بعض الإخوة. ولأن الفكرة حسنة، فحفظ النفس من آكد أهداف الشرع قررت أن أدلي بدلوي في هذا الشأن، بإضافة بعض الحقائق، التي ربما تغيب عن أذهان بعض القراء.
أولا: الدماء اريقت بالماضي. ويتحمل وزرها من أراقها فلم يكن الجيش و لا الشرطة مضطران إلى قتل قوم ركع سجد يمارسون أبسط الحقوق المتعارف عليها في عصرنا في التظاهر السلمي و الإعتصام. و الدلائل و التقارير التي قامت بها جهات محايدة في المجزرتين الكبيرتين، مجزرة الساجدين (الحرس) و مجزرة النصب التذكاري، كلها تشير إلى أن هؤلاء لم يكونوا مسلحين وأن معظمهم قتل بالرصاص في مَقاتل بما يعني أن قتلهم لم يكن بهدف إضعافهم أو إرهابهم. فلا مجال لمن يساوي بين قاتل مسلح ومقتول أعزل. مالكم كيف تحكمون. (إرجع إلى تقارير هيومن رايتس ووتش، آمنسيتي أنترناشونال، و البيبي سي، و الغارديان، و الجزيرة، و غيرها. بل إن بعض الأصوات في الحكومة إعترفت بالإستخدام المفرط للقوة. ) وقد وثقت بعض هذا في موضع آخر ولا حاجة لي إلى إعادته هنا.
ثانيا: فقط للتذكير، الإخوان يطالبون بإعادة رئيس منتخب، ودستور مستفتى عليه، و مجلس شورى منتخب. وخصمهم يدافع عن إنقلاب.
ثالثا: لو تنازل مرسي وقال لا أريدها. أوَلاَ يكون بذلك خان ملايين النساء و الرجال الذين يخرجون منذ شهر، يعرضون مصالحهم وحياتهم للخطر، في سيناء، و في الصعيد و في القاهرة و الإسكندرية و في المنيا و غير ذلك، أترى كل هؤلاء من الإخوان؟ إن كنت لم تتابعها فقد تابعتها أنا مسيرة مسيرة يوما بيوم. هؤلاء القوم لم يخرجوا دفاعا عن مرسي و لا عن الإخوان ولا عن حكمهم. هؤلاء خرجوا دفاعا عن مصالحهم التي ديست بالأرجل أعواما و أعواما. هؤلاء هم فقراء مصر و سوادها الأعظم الذين أثرى الخاصةُ على حسابهم عقودا، رأوا فرصتهم الأولى في إنتخاباب رئيس، و سمعوا للمرة الأولى عن قرارات تصب في مصلحتهم، كرواتب للأسر المعيلة، و العفو عند ديون المزارعين، ورواتب للشهداء، وزيادة الدعم للإنتاج المحلي، ورواتب للمطلقات، و تعويضات لمن سرقت أراضيهم من رجال الدولة و غير ذلك، مما حصل في سنة لم يكن للرئيس المنتخب سند ولا عون من أجهزة الدولة كما بات واضحا الآن. وقد ألغيت معظم هذه القرارات في أسابيع والجيش مازال يبحث عن الشرعية لانقلابه فما ذا يكون لو حصل عليها.
لو تنازل مرسي يكون قد شرّع الإنقضاض على حقوق هؤلاء ووأد فرصتهم الماثلة امام أعينهم في إنتخاب من يريدون وفي أن يكون لهم وزن وقول في كيفية إدارة بلدهم. لو تنازل يكون قد شرّع الانقلاب على السلطة و دوس الحريات و الكرامة و أعطى غطاءا لتسلط شرعية القوة على قوة الشرعية. ويكون جاء بالإنتخاب ليشرّع الإنقلاب. فيالها من مصيبة.
رابعا: إفرض أنه تنازل، أترى أن الملايين المملينة من المصريين، شبابا و شيبا، رجالا و نساءا، ممن يخرج يوميا أوخرج وبقي معتصما من مستهل رمضان سيتخلون عن حقهم؟ ما تراه يقول لأسر الشهداء، ما تراه يقول لأسر الجرحى. لقد ضاعت أرواح شبابكم هدرا، و حقوق جرحاكم هباءا.
خامسا: وهل فعلا سيعني تنازل مرسي و تراجع الشارع (هب كل ذلك حصل) حقنا للدماء؟
في التاريخ تكمن الإجابة. فهلم نفتح ونختصر صفحة حُبلى منه.
الخامس والعشرون من فبرائر من عام ١٩٥٤…يستيقظ الشعب المصري على قرار من "مجلس قيادة الثورة" يقيل فيه الرئيس محمد نجيب من منصبه، وقد لفق له جمال عبد الناصر و عصابته المتعطشة للسلطة تهما منها رغبته في الإستبداد، وطلب سلطات فوق عادية، ركوبه للثورة (sounds familiar, doesn't it) ولم يكن من رجالها و إنما تكرم عبد الناصر بالمنصب بسبب سمعته الحسنة.
الشعب المصري التائق للحرية فهم اللعبة و خرج ليندد بهذا العمل. فكان رد عصابة ناصر أن أذاعوا بيانا ثانيا يقول فيما يقول زورا إننا أمام نارين بين صلف الرئيس وحبه للإستفراد بالقوة و هيجان الثوار الذين يريدون تغيرا حقيقيا و "قد أظلمت الدنيا في وجوهنا ونحن حائرون…بين أمرين أحلاهما مر". طبعا لم يكن المصريون أغبياء ليسمعوا لمثل هذا الهراء. خرجت المظاهرات وكان في القيادة منها الإخوان المسلمون. و واجهتها عصابة ناصر بنفس الأساليب التي شاهدنا مؤخرا. أطلقت النار و قتلت من قتلت وكانت الغالبية من الإخوان تماما كما تراه بأم عينيك اليوم. لكن لا الإخوان ولا غيرهم قرر الرجوع بل بقي الكل مصرا على إعادة الرئيس لمنصبه و للإستمرار في التهئية للعودة الدستورية.
يقول محمد نجيب في مذكراته. "وخرجت مظاهرة ضخمة من جامعة القاهرة (يوم ٢٨ من فبرائر عام ١٩٥٤)… وكان المتظاهرون يهتفون بحياتي و حياة الديموقراطية …. هتافات الإحتجاج على مجلس قيادة الثورة لم تتوقف وكانوا يصفونهم بالإعداء"
في هذه اللحظات الحرجة أدرك عبد الناصر و عصابته أن الإنقلاب فاشل على الأقل في ذلك اليوم فتركوا محمد نجيب يظهر ويتولى الامر مجددا. هنا يخرج الأخير ويطلب من عبد القادر عودة الشخصية المعروف وكان في مقدمة الجموع محمولا على الأعناق، أن يأتي و يصعد الشرفة بجنبه ثم يطلب منه أن يطلب من الجماهير أن تنفض، مع وعد بالسعي في إستعادة الحياة الدستورية و التحقيق في القتل و السجن و غير ذلك من أصناف الظلم التي كان يمارسها ناصر ورجاله سرا وجهرا، تحت كطائل وبدونه.
رجع الناس، لكن هل حقنت دماء؟ وهل صينت أعراض، وهل نشرت حريات؟ طبعا البقية تاريخ كما يقال.
رجع الراجع من الناس لكن ناصر وعصابته لم ترجع عن تنفيذ مخططها. أطيح بنجيب، ورمي في قصر خرب يتجرع الذل و الهوان مع جهاز راديو يسمح له بالإستماع إلى مثالبه، اعتقل عبد القادر عودة و سجن، عذب ثم قتل. وكانت تلك فاتحة سنون ناصر العجاف، مصائب كبرى و هزائم تترى. تراكمت الديون، وأفقر الشعب، و تراجعت الحريات، وسيق الناس وفي مقدمتهم الإخوان كما هو معلوم إلى السجن زرافات ووحدانا، وفيه عذبوا، و قتلوا. كان لسان حالهم يقول كما قال أحمد مطر
(و الدرب مُتّضح لنا فوراءنا متعقِّب وأمامنا سجانُ
فَيخاف من فرط السكوت سكوتنا من أن تمر بذهننا الأذهان
ونخاف أن يشيَ السكوت بصمتنا أو أن تكون لصمتِنا آذان
نُحنَا فلم يشفق علينا عقرب صحْنَا فلم يرأف بنا ثعبان )
قُدّم العمود الفقري للجيش المصري على طبق من ذهب في أرض قاحلة مفتوحة وبدون غطاء في سيناء لليهود في وقت إنشغلت فيه القيادات العسكرية في القاهرة في الصراع على الغنائم. قام اليهود بما أملاه عليهم موقفهم، فكسروا الجيش، وعاثوا في بلاد العرب سلبا و نهبا، ولم لا، وهل هم أحسن أو أرحم من حماتها ومغتصبيبها. كان الإعلام العربي و الخطابة العربية تسحر رجالها و نسائها بنصر زائف تحت قيادة "الإنقلابي الفذ"! فأستخف قومه فأطاعوه.
هيكل و رجاله و هم اليوم يتصدرون المشهد ثانية كانوا يلقون ما تلقي عليهم شياطينهم فـــ
"يلقي بها الإعلام فوق رؤوسنا صحفا يقيئ لعريها الغثيان
فزبالة و استبدلت بزبالة أخرى ولم تستبدل الكيزان
فابن الشوارع فارس في ساعة وبساعة هو غادر وجبان
….
حتى إذا انقشع الدخان مضى لنا جرح وحل محله سرطان
وإذا ذئاب الغرب راعية لنا و إذا جميع رعاتنا خرفان"
إن كان البعض نسي هذا التاريخ فالإخوان و غيرهم من المصريين لم ينسوه.
إن موقفهم اليوم هو ببساطة محاولة لكي لا يتكرر التاريخ. إنه موقف ضد إراقة الدماء، أو على الأقل ضد أن يريقها سفاحوها وهم في راحة دون أن ينغص عملهم منغص.
وإذا لم يكن من الموت بدٌّ فمن العجز أن تموت جبانا
هذا غيض من فيض مما يمكن أن يقول قائل
تعليقات
إرسال تعليق