الصراحة و نبش الماضي




* كون المجتمع الموريتاني كان يمارس العبودية هي مسألة لا خلاف فيها. وكون بعض جيوب الإقطاع لا تزال قائمة، كذلك أمر حقيقي بدهي. 

* كون الإستعباد في مجتمع البظان بالخصوص كان في الغالب يتم من طرف شخص فاتح البشرة، أسمر على شخص أسود أو أكثر سمرة، مسألة مفروغ منها. (ومع ذلك كانت ومازال توجد بعض الممارسات الإسترقاقية في المجتمعات الإفريقية بين من يشتركون في لون البشرة).

* كون الكثير من الموريتانيين، وليس كلهم، كانوا يعاملون العبيد إعتمادا على أسوأ ما أنتج أبو الطيب المتنبي خلافا لشرع الله و سنة نبيه و عمل الخلفاء و الصحابة والتابعين و تابعيهم، هذه أيضا مسألة لا خلاف فيها ونقلها لي من لا أشك في صدقهم. هذه الصورة من الإستعباد مخالفة لصورة التكافل ومعاملة المولى لمولاه، تلك المعاملة التي أنتجت سلسلة الموالي القادة، وسلاسل ذهبية في كل روايات الحديث المعتمدة، ولك أن تتصفح مصنف عبد الرزاق الصنعاني مثلا، وهو من أوائل ما دون في الحديث، وستجد أن رواة معظم الأحاديث هم موال عن موال، لكنهم مع ذلك ثقاة من ثقاة في عيون الأمة مؤتمنون على كلام نبيها عليه أفضل الصلاة و السلام. 

* كون الكثيرين واصلوا ممارسة العبودية حتى بعد الإستقلال و حتى بعد قرارت تحريم الرق في الثمانينات و ما تلاها، هذه أيضا مسألة لا شك فيها.

* كون الغالبية الساحقة من الموريتانيين تخلوا عن الرق ورعا، أو خوفا، أو طمعا، أو عجزا، أو عوزا هذه أيضا مسألة لا شك فيها.

* كون الغالبية الساحقة من العلاقات التي تربط طرفي المجتمع في معظم القرى التي أعرف هي علاقة جيرة، وأخوة وتعاون، و اعتماد كل على الآخر، هذا أيضا أمر لا خلاف فيه، وهي علاقات فيها التعاقد على العمل، التنازل عن الحقوق، تبادل الود، إجراء الصّدَقات، تبادل الزيارات، تبادل الهدايا في الأعياد وفي أوقات قدوم المسافرين، وتبادل لفكايع أيضا و الشوفات. وطبعا لأسباب طبقية ثقافية، لا علاقة للشرع بها، يبقى الجانب الوحيد من التعامل الإنساني المنعدم في هذه الحالة هو زواج أي طرف من الثاني. وهو حاجز يحتاج إلى الشجاعة والحكمة من كلا الطرفين وخصوصا من الشباب لكي يكسر، ولن يكسره، ولن يساعد على كسره خطاب العنصرية التي يتبناه البعض. وهو عموما ليس مطلبا ولا أساسا لتعايش أخوي سلمي، وجزء من عقدة أكبرة في مجتمعنا غير منحصرة على اللون، فبعض القبائل لا يتزوج من بعض، ولا يراه كفؤا في هذه المسألة الخصوصية، بل إن بعض الأسر في القبيلة الواحدة لاتتزوج من بعض. وعموما هذه من المسائل يلعب التمدن دورا كبيرا في إنمحائها التدريجي. من يستبق صيرورتها الطبيعية ربما يفسدها ويعكر مسارها. ودور التمدن في هذه يجب أن لا يفهم على أنه مجرد السكن في المدينة. فمثلا هناك من الطبقات المتعلمة من لا تمانع في أن يتزوج ابنها وأو بنتها من أسرة متعلمة حتى من طبقة لم تكن معروفة بالتعلم. أي أن المسألة ليست متعلقة بطبقة بقدر ما هي متعلقة بمجموعة معايير تراها أسر على أننها أساس للتكافؤ، وغذتها في الماضي طبيعة الطبقية التخصصية التي كان المجتمع يعيشها. فتغير الصور النمطية مثلا لشاب من الزوايا من أنه متدين، متعلم، عف، إلى كونه شخص خامل، يرضى من العلم بالتفيهق، و الثرثرة، وحفظ أسماء الفنانين و الفنانات، هذا التغير و الذي يوازيه تغير في صور نمطية أخرى لطبقات أخرى (تجعل من الإيكيو مثلا رجلا، طالب علم، مقيما للصلاة، متواضعا، صبورا في طلب العلم) كفيلة بإنمحاء هذه التصورات وانكسار الكثير من الحواجز، أو تبدلها وهي سنة الحياة. سيبقى التفاضل قائما، و لن ينظر الناس أبدا إلى بعضهم أنهم أكفاء في كل شيئ حتى لو أتفقوا على أنهم أكفاء في الإنسانية، بل وحتى لو فرضنا وهو من المستحيل، تكافؤهم في العمق الفلسفي فلن يقبلوا التكافؤ حينها. وهل يغض من العلماء و يضع قدرهم أكثر من نظرائهم! 

* الكثير من المنظمات غير الحكومية في موريتانيا بما فيها ما يسمى منظمات حقوق الإنسان هي منظمات إسترزاق تواصل الليل بالنهار أمام السفارات الغربية تستجدي بشكل مقرف، و تفتعل الدراما من أجل تبرير تواجدها على الورق. وأقول هذا عن دراية وسابق معرفة و ليس ضربا من التخرص. فقد عرض على أن أكون مسؤول العلاقات الخارجية لإحدى هذه المنظمات، كوني "متعلما" وأعرف لغة من لغات النصارى، وكنت في البداية مهتما بسب ماسطر في القوانين الداخلية لهذه المنظمة من الكلام الجميل عن القيم النبيلة، ولكن زيارة إلى إحدى السفارات الغربية، مع صديق تقدم بطلب تأشرة جعلتني أعيد النظر في الأمر. كان أحد الفقهاء الأجلاء المعروفين يتدافع مع مجموعة من النساء المشمرات عن الأذرع و السيقان يستجدي أحد عمال السفارة أن يستعجل من السفير الرد على طلب منحة لجمعيته التي تحتاجها لكي تشارك في فعالية تحسيسية في الداخل! وأطلعت على أشياء غير ذلك كثيرة في ما بعد. على كل حال أتفهم أن الرجل لو لم يكن يعيش ضغوطا إجتماعية من أجل الإثراء، ولو لم يشعر بأن أصدقائه من الوزراء يثرون بشكل أسرع لكان في معزل عن موقف الذل ذاك: وإنما يقط أعناق الرجال المطامع! 

أتفهم أنه هو وبعض السيدات التي تكلمت مع إحداهن، وهي رئيسة منظمة حينها، إنما يخادعن النصارى في إعتقادهم، ولا ضير عندهم في خلق نوع من الدراما و الفعاليات ليس بغرض الإساءة لأحد ولا حتى تفكيك المجتمع وإنما فقط لتبرير المصاريف و الوجود على الورق كمنظمة. هي لعبة لا يعرفون أنهم يلعبونها مع أناس لا يصرفون أموالهم لمجرد اللعب. طبعا كل المشكلة وأساسها يقع على الدولة التي عليها أن توفر لهؤلاء مصادر رزق لا يحتاجون معها إلى التذلل أمام السفارات و اللعب بمستقبل السلم الإجتماعي. ولكن تبقى للمواطنين مسؤولياتهم أيضا تجاه الدولة. لا مشكلة في اللعب الفردي، لكن عندما يتم التلاعب بالسلم الجمعي فثمة ينبغي أن ترسم وتقام الحدود. 

* إن السعي لمحو كل آثار التمييز و الظلم، ماضيه و حاضره، هو مسؤولية كل مسلم و في السياقات الجغرافية، الإعتباطية، و الإكراهية لما يسمى الدول القطرية، هي مسؤولية كل مواطن. إن محاربة التمييز تبدأ بالإعتراف بوجود ماهو قائم منه، وما كان قائما و التحقق من ذلك عمليا. إن المبالغة فيه، إن تضخيمه لا يحله و لا يساعد على حله. وإن مقاربة الإستعداء وتبني خطاب يدعوا إلى الإنتقام، هو عملي صبياني لا ينم عن وعي لا بالتاريخ و لا بالمسؤولية التي يقتضيها العمل العام. لكن وهذا في غاية الأهمية ينبغي أن لا يكون رفع الظلم عمل طرف واحد، بل عملا دؤوبا من كل الأطراف. و ينبغي أن لا ينظر بريبة-- أي بدون أدلة واضحة، وبدون قرائن غير قابلة لتعدد التأويل، أو خطاب تحريضي عنصري واضح-- إلى كل من يدعو للإنصاف. إن من يدعون للإنصاف، هم حماة المجتمع وليسوا معول الهدم. إن من يتستر على الجرائم، لكي تستمر، ومن يتغاضى عن الظلم لكي ينتشر، ومن يعامل العنصرية بالعنصرية، ومن يخلق من الحب قببا وصوامع، هو من يهدد أمن الوطن في المقام الأول، وإن بشكل أكثر خفاء.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"تحليل التراث الإسلامي"

هذا الذي جعل الألباب حائرة و صير العالم النحرير زنديقا