باعة الوهم


--دوما يبشرون بالحريات، دوما يتكلمون عن ضرورة التقدم وعن نبذ بائد العقليات.

-- ينظرون إلى المجتمع نظرة دونية، مغلفة بقالب من الشفقة المزورة.

--أبدا يبحثون عن ما يميزهم عنه. يحترمون من لا يحترمه، ويستشهدون بمن لا يمت إليه بصلة. 

-- يزينون للمجتمعات التي يسكنونها حرية الآخرين، و عملانيتهم، وتطورهم، ويحاكون مظاهرهم، وينشرون ما أنحط من أخلاقهم، في الإعلام و في الإستهلاك، و في شاذ الفلسفة أو متجاوزها. يقولون لو أن مجتمعاتنا بدلت لبوسا غير لبوسها، وثقافة غير ثقافتها، ودخلت كل جحر ضب دخله التاهون في بلاد الغير، لو أن مجتمعاتنا تخلصت من آخر ما يمثل ذاتها لو إنسلخت من جلدها، لكنا رقينا في الفكر درجات على، وحققنا الصناعة مجدا لا يبلى، وصعدنا على النجوم و الأقمار، وأصبحنا محبوبين لكل الخيار و الأشرار. 

--متفهمون لكل فعل ولكل قول، إلا ما أتفقت عليه مجتمعاتهم، فذلك الذي لا تقبله عندهم القلوب ولا تستسيغه الأدمغة، ولا يسكت عليه أصحاب المبادئ و القيم. يعتبرون إجماع الامة شاذا وفكرها جنونا، وأحلامها منكرا، وقوانينها تشددا وتزمتا.

-- يريدون للأمة التجديد، والخروج على قوالب الإنكفاء و التقليد. يسومون الكتب الصفراء و الخضراء سوء العذاب، ويتندرون بشاذها في مجالس الخلان و الأصحاب. 

--يرون كل فكر الأمة فكرا خارج الزمن، إستداعه خروج على فهم أنساق الحياة و قوانين التغير، مستندين إلى إختلاف الزمان و المكان و السكان. لكنهم لا يتورعون عن التشبث بفلسفات القرون الوسطى في أرض الأغريق و الرومان، ويمجدون أخلاق الأوروبين و الأمركان، ويرون الدعوة لذلك فهما لأنساق الحياة، وإحتراما لقوانين الطبيعة. لا يهم أفي هذا الفكر ما تجاوزه أصحابه، وما بان مع التجربة عواره. 

--كثيروا الكلام عن مشاكل الأمة، صامتون متكتمون على كل خير فيها. لا يرون من عملها ولا يسمعون من قول نسائها أو رجالها إلا الغريب و الشاذ، و السيئ و القميئ. طليقوا الألسنة، منشرحوا الصدور وقت المصائب! 

-- هؤلاء يبدون وكأنهم رواد نهضة الأمة، ومصابيحها النيرة في حالك الظلام. 

--لكنهم --وهنا ام المعضلات، واللغز المحير في شأن هؤلاء السادات-- ما إن يلوح في الأفق أن المجتمعات التي يعيشون فيها مقبلة فعلا على سبر أفكار الآخرين وإختيار ما بدى متفقا مع ما دعوا إليه، وما بشروا به، مما أتفق أنه صالح في حياة العمران، و في تحسين حياة الإنسان، ما إن تقبل المجتمعات على ذلك، ما إن تشمر عن ساعد الجد لكي تبني كما بنى آخرون، مستعلمة بعض دروسهم، ومتحفظة على بعض زلاتهم، ما يحصل هذا حتى يعلوا منهم الصياح، و يكثر في ناديهم العويل، و تمطر ألسنتهم التشائم، ويلعنون جديد الحياة و يتباكون على ما ضيها، نفس الماضي الذي طالما لعنوه-- تسلق ألسنتهم كل عامل و كل جاد، يبدأون بتصوير صغار الهنات على أنها أهلك الموبقات، و أن كل تقصير بسب الموارد أو المصادر خيانة متعمدة، و فتنة مستهدفة، وخراب ما بعده إصلاح، وفساد ما سبق إليه أحد من العالمين، ثم لا يلبثون حتى يختلقوا المشكلات و يضعوا العراقيل، و يكيدوا المكائد! 

ومع كل هذا هم لا يريدون لمجتمعاتنا إلا التقدم و الرقي و مسايرة ركب الحضارة.

-- عقولهم صاحبة الفكر الحر الداعي لكسر كل القيود، و المتفهم لكل النزوات، تصير عندما تحين اللحظات الحاسمة في تاريخ الأمة، ضيقة حرجة كأنما تصّعد في السماء. أرواحهم السمحة، و نفوسهم الموغلة في الإنسانية، يصبح في عرفها قتل المعارضين حماية للعباد، وممارسة للحرية و القانون، و يصبح كبت الحريات إنتصار للأمة، وتكميم الأفواه الطريق إلى شطآن الإبداع. وأهم من كل هذا أن من كانوا يمجدونهم بالأمس على أن فكرهم و نظمهم هي أساس الخلاص و الفلاح، يصبحون اليوم متآمرين على البلاد و العباد.

-- هؤلاء مفكرون في كل شيئ إلا في مصالح الأم فإن بينهم و بينها أمدا بعيدا!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"تحليل التراث الإسلامي"

هذا الذي جعل الألباب حائرة و صير العالم النحرير زنديقا