تفاصيل إنقلاب السي آي أي في إيران ١٩٥٣



في هذا الأسبوع مرت ذكريات عديدة لأحداث جسيمة في تاريخ منطقتنا. من هذه الأحداث الثورة الإيرانية التي حصلت قبل ٣٥ عاما. الثورة تذكر بعقدين من الزمن سبقاها كانا حافلين بالأحداث التي ما تزال تترك أثرها على المنطقة، في هذين الإنقلابين تولت المخابرات الغربية التخلص من قائدين في بلدين جارين. أول الإنقلابين ستأتي نتائجه السلبية بالخميني قائدا مخلصا لإيران، و الثانية ستمهد الطريق لشخصية أخرى ستشغل الناس في الفترات اللاحقة، وستدخل هذه الشخصية و الخوميني في حرب مرتونية طاحنة يخرج منها البلدان مثقلان بالديون و الجراح دون أن يحققا شيئا إلا على مستوى الخطابة، و تبرير اضطهاد الخصوم. 

في ما يلي نسرد تفاصيل كيفية إسقاط السي آي أي و المخابرات البريطانية لحكومة مصدقي الإيرانية المنخبةفي عام ١٩٥٣، وكيف ستقوم بإنقلاب آخر في عام ١٩٦٣ في العراق، يقود في النهاية إلى دخول صدام حسين الحكم حليفا لأمريكا و الغرب. سأعرض هذه التفاصيل في حلقتين. تتناول الحلقة الأولى تفاصيل الإنقلاب على مصدقي:
١
++++

في مارس من عام ١٩٥١ أغتيل رئيس الوزراء علي رزمارا وتولى محمد مصدقي رآسة الوزراء ، وسرعان ما أثار غضب الإنجليز بسبب محاولته إستعادة السيطرة على النفط؟

وقاد هذا الخلاف مع الإنجليز إلى خلاف مع الشاه، رجلهم في إيران، مما أضطر مصدقي أن يستقيل إحتجاجا على عرقلة عمله في السابع عشر من يوليو ١٩٥٢. ومن ثم تولى رآسة الوزراء أحمد غافام، لكن ثلاثة أيام حاسمة من الإحتجاجات الشعبية أرغمت الشاه على إعادة مصدقي إلى رآسة الوزراء في الثاني و العشرين من نفس الشهر.

ومع بداية الربيع من العام الموالي أي عام ١٩٥٣ بدأت الأجهزة الإستخبارية الأمريكية في السعي إلى قلب الحكم في طهران، وإبدالها بحكومة موالية لأمريكا. و بالفعل بدأ العمل على وثيقة من طرف السي آي أي تدرس هذا الإحتمال خرجت إلى النور في السادس عشر من إبريل من عام ١٩٥٣. الوثيقة المعنونة 
"العوامل الضرورية للإطاحة بمصدقي" توصلت إلى أن الإطاحة بهذا الأخير أمر ممكن.

وفي مطلع الصيف، و بالتحديد في مايو من عام ١٩٥٣ إجتمع فريق من ضباط و عملاء المخابرات الأمريكية و البريطانية في مدينة نيكوسا القبرصية لوضع مسودة مخطط الإنقلاب. وكان بالتزامن مع هذا قد أعطي لمكتب المخابرات الأمريكية في طهران الأمر بإطلاق حملة ما عرف "بالدعاية الرمادية" للعمل على تشويه سمعة مصدقي.

وسيجتمع كبار ضباط السي أي أي مرة أخرى في بيروت و بالتحديد في العاشر من يونيو لوضع اللمسات الأخيرة على مخطط الإنقلاب. ثم تم الإتفاق على البرامج العملية لتفعيل المخطط من طرف كل من السي آي أي و المخابرات البريطانية في التاسع عشر من نفس الشهر وقدمت نسخ منه لوزارتي الخارجية في البلدين.

وفي فاتح يوليو أعطى البريطانيون موافقتهم على المخطط في الأول من يوليو، لكن مواقفة أيزن هاور تأخرت حتى الحادي عشر من الشهر.

هنا بدأت عمليات المفاوضة بين الحليفين على من يأكل كعكة النفط الإيرانية في مرحلة ما بعد مصدقي. وكان لزاما أن يظهر البريطانيون مرونة وإستعدادا لإشراك الشركات الأمريكية في الأمر. و بالفعل أتت تطمينات بهذا الشأن من طرف مكتب الشؤون الخارجية البريطاني في الثالث و العشرين من يوليو إلى وزارة الخارجية الأمريكية من نفس العام، أي ١٩٥٣.

في هذه الأثناء كان المخطط ينص على أن يقوم الشاه بعزل مصدقي الذي من المفروض أن تكون سائت سمعته نتيجة الدعاية (الواسعة داخليا و خارجيا) التي مولتها المخابرات البريطانية و الأمريكية و عملائها في المنطقة. ولم تسلم الصحافة الأمريكية من هذا التلاعب حيث نشرت في دورات متلاحقة الكثير من العلومات التي من شأنها المس من مصداقية مصدقي ومواقفه الوطنية.

ثم بعثت المخابرات الامريكية إحدى عميلاتها و التي لم تكن هذه المرة إلا أخت الشاه ذاته، في مهمة إلى طهران لإقناع الشاه بالتصديق على قرار عزل مصدقي و إحلال الجنرال زاهدي محله. كانت الأميرة أشرف مقيمة في باريس إحدى العواصم التي تجتمع فيها وخصوصا في تلك الفترة، النخب الفاسدة من العالم الإسلامي، ولذا كانت وكرا أساسيا لعمل المخابرات الغربية، لسهولة إكتتاب الشخصيات ذات الأصول المسلمة المستعدة للقيام بالواجب مقابل مكاسب مادية ومعنوية.

كانت الأوامر قد أعطيت في نفس الوقت لفضل الله زاهدي لكي يقوم بالإنقلاب في أي حال لأن السي آي أي لن تتردد في العمل على إسقاط رئيس الوزراء المنتخب حتى لو رفض الشاه التوقيع على أمر ملكي بعزله. وكما كان واردا رفض الشاه توقيع الأمر نتيجة تجربته السابقة في عزل مصدقي و الضغوط الشعبية التي أرغمته على إرجاعه لسدة الحكم ثانية.

طبعا لم يثن ذلك الولايات المتحدة عن انقلابها، فقد كثفت الماكينية الإعلامية تشويه صورة مصدقي و إفتعال الأزمات وخصوصا في الأيام و الأسبوع الذي أعقب رفض الشاه الموافقة على إقالته.

أصر الشاه على موقفه وأعلن رفضه القاطع في إجتماع مع الجنرال نورمان شوارتزكوف (من مواليد عام ١٩٣٤، ومن خرجي أكاديمية وسط بونت المشهورة، وشارك في حرب فيتنام و ترقى وقاد في مراحل لاحقة سنترال كوم، القيادة المركزية) تعيين زاهدي وإقالة مصدقي.

في الأثناء أخذت الشكوك تساور مصدقي، بشأن ما يجري خلف الأبواب المغلقة، ثم بدأت التسريبات تتوالى عليه مؤكدة أن الإبريطانيين يطبخون أمرا ما في الخفاء. وإستباقا للعاصفة قام بالدعوة إلى إستفتاء مبكر وحل البرلمان في الرابع من أغسطس.

هذا الحراك السريع للأحداث دفع الشاه إلى العدول عن قراره السابق و إلى التوقيع على إقالة رئيس الوزراء مصدقي في الثالث عشر من شهر أغسطس من عام ١٩٥٣.

وبذلك لم يعد خافيا أن إنقلابا ما يجري على قدم وساق ، لكن مصدقي كان قد أتخذت بعض الإحتياطات التي أربكت الجيش و تسببت في تخاذل الحلفاء مما دفع الجنرال الإنقلابي إلى الإختفاء يوم ١٧ عشر من نفس الشهر من توقيع الشاه على إقالة مصدقي. ثم بلغت الدراما الإرانية ذروتها مع هروب الشاه في اليوم الموالي إلى بغداد، أي في السادس عشر من نفس الشهر من العام ١٩٥٣.
لكن زاهدي الذي استعاد بعض الثقة بالنفس والتواصل مع حلفائه من العسكر أصدر بيانا يأكد فيه أنه هو رئيس الوزراء الشرعي، وتولى حلفائه الامريكيون في السي آي أي النشر الواسع محليا و إقليميا ودوليا لنسخ من قرار الشاه عزل رئيس الوزراء مصدقي و توليته هو، وجائت تزكية تلك الوثائق من الشاه الذي أعلن من مأمنه في بلاد الرافدين أن الوثيقة غير مزورة.

بعد يومين (أي في التاسع عشر من نفس الشهر) من الإعلانات و الإعلانات المضادة، بدأت الصحافة الإرانية تنشر و بشكل مكثف قرار الشاه بعزل مصدقي، وهي عملية تولت السي آي أي كبرها . وفي ردة فعل عفوية المظهر بدأ أنصار الشاه يتجمهرون في الشوارع، و بدأت الإجراءات مجددا لمحاولة إسقاط حكومة مصدقي. كانت الفرصة مواتية ليخرج زاهدي من مخبئه ويقود حركة الجماهير. وفي نهاية اليوم كان الإنقلاب قد تم.

البقية كما يقال تاريخ.

فتحت السجون و رمي كل مساندي الحكومات السابقة في السجن، وأعدم وزير الخارجية الأسبق حسين فاطمي واستأنفت الشركة البريطانية الأيرانية للنفط عملها مجددا. أصبح الشاه و معاونوه أكثر تنكيلا و أشد جرأة و فسادا من ذي قبل. ولم يعد في التعاون الإستخباراتي و الأمني مسألة محرجة على الإطلاق.

وأصبح الجو مواتيا لكي تهنئ بريطاينا الحكومة الجديدة على واقعيتها الساسية وتعاونها دون ان تنسى مستحق الشكر للامريكيين على الدور القيم الذي لعبوه.
كما ورد في تقرير للخارجية البريطانية، هذا مقتطف منه.

"Her Majesty's Government wish to pay tribute to the realism which the Persian Government and the company have displayed in the interests of a settlement. They are also glad to acknowledge the helpful and constructive part played by the United States Government and its representatives."

من ذلك الواقع بدأت الأمور تسير شيئا فشيئا بإتجاه ثورة كالتي أتت في 
بالخميني قبل خمسة وثلاثين سنة من اليوم.

نتكلم لا حقا إن شاء الله عن الإنقلاب في العراق و علاقة صدام حسين رحمه الله بالسي آي أي، علاقة بدأت عندما كان الرجل في منتصف العقد الثاني من عمره.

(معظم المعلومات مترجمة من تلخيص لتسلسل الأحداث نشره موقع النيورك تايمز)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"تحليل التراث الإسلامي"

هذا الذي جعل الألباب حائرة و صير العالم النحرير زنديقا