التعريب: تفكير البسطاء على هامش حوارات النخب
بعيدا عن السياسية، وبعيدا عن الأيديولجيا، وبعيدا عن قرارات التوظيف و الفصل، و بعيدا عن الاعتبارات المادية الأخرى، الكل يدرك أنه ثمة حاجة في غالبية دول العالم إلى لغة لممارسة الإدارة، وإلى نقل العلم و المعلومات للأجيال التالية. وثمة استثناءات في فيدراليات معينة حيث تتعدد لغة الإدارة ويحصل أن تستأثر لغة ما بإقليم بينما تبقى الأقاليم الأخرى تحت تأثير لغة المركز.
اللغة أداة سحرية لخلق الدولة القومية ومعضلة كبيرة تهددها في كل الأحوال.
بسهولة تستطيع الدولة القومية أن تخلق تاريخا موحدا للجغرافيا و للدموغرافيا من الخيال، لكنها في الغالب لا يمكن أن تخلق لغة موحدة من الخيال--وإن كانت اللغة المعتبرة تستشف ضمنا من الرواية التاريخية الجمعية-- ولذا يلزمها أن تفرضها بالإكراه القسري أو بالإكراه الناعم. لغة الدولة التي يتم التوافق عليها هي لغة الأمة. بقية اللغات سيكون عليها أن تتنافس على مواقع أخرى في هامش الجسم الواقعي و الخطابي للدولة.
ومع الإكراه تبقى دائما فراغات يمكن لغير الناطقين بتلك اللغة التحرك فيها. من هذه فراغات من القطاعات الخارجة عن سلطة الإدارة بل و الفراغات الناجمة عن برغماتية الإدارة التي تتميز عن خطابها الرسمي. الإدارة تحتاج إلى خطاب رسمي لكي تقوم كصورة وكشرعية، لكنها تحتاج إلى البرغماتية العملية لكي تستمر ككيان. بعض الدول الذكية تشرعن بعض برغماتيتها لكنها تحتفظ بالتوازن، و بعضها أذكى بحيث تجعل مسألة الإكراه مسألة غير محسوسة، لكثرة الفراغات التي تخلقها أو لانسياب العمل فيها.
من حيث المبدأ من حق أي جماعة قلت أو كثرت أن ترفض أي لغة، ومن حق أي جماعة أن تتعامل باللغة التي تحلوا لها. لكن ثمة فرق بين خطين أحدهما يدخل و الثاني يخرج من الدولة القومية الحديثة. الأول هو القبول باللغة الرسمية حتى مع كرهها و مقاومة تغولها على الثقافات الأخرى، إن ريئ أن ذلك يشكل معضلة حقيقية. الثاني هو رفضها كلغة رسمية والإصرار على إستبدالها. في النهاية الدولة التي تواجه مشكلة من هذا القبيل إما أن تفرض فيها لغة جديدة على من أراد أو لم يرد، أو أن تنقسم الدولة مجددا على أساس خطوط اللغة، ومن المرجح أن ذلك الإنقسام قد يستمر، لأن الخطوط الجغرافية نادرا ما تتوافق مع خطوط اللغة و القومية.
طيب يجب أن لا نغفل تقريرا أساسيا في تطورات قديمة من حيث الجوهر لكنها أساسية في عالم اليوم كمنطلق شرعي لقيام أي دولة. هذه التطورات هي في الجوهر كون الدولة الحديثة تستمد شرعيتها من خلال إدعائها أنها توفر للساكنين فيها نوعا من التعامل العادل، تمكنهم فيه من القدرة على العيش عبر توفير خدمات مثل الماء و الكهرباء و الغذاء و الدواء و التعليم وكل ما من شأنه تسهيل هذه الخدمات بما في ذلك الخدمات اللغوية. ينضاف إلى ذلك محاولة علاج ما شُخّص كأسس تاريخية أو واقعية تجعل شريحة أو شرائح في موقف يصعّب من عملية استفادتها من خدمات الدولة.
ولذا فإنه حتى إذا ما كانت ثمة لغة رسمية لبلد ما فإن الدولة تبقى أخلاقيا مسؤولة عن التأكد من أن غير الناطقين بتلك اللغة غير مستبعدين من الخدمات التي توفرها ومن المساهمة في عملية "البناء" التي يشارك فيها الآخرون. هنا يأتي دور السياسات التنظيمية.
في موريتانيا لدينا معضلة أكبر بقليل و أغرب قليلا من معظم المعضلات الأخرى، وهي ناتجة عن إختلالات فترة الإستعمار و ما أعقبها.
في موريتانيا تعدد لغوي. هذه ليس غريبة في أي دولة بل إن ما يلفت نظر المرأ هو مستوى التجانس الموجود في موريتانيا، رغم الطبعية غير المتمدنة لجميع السكان عربا، بربرا أو من قبائل إفريقية (فلان--مع أن الكثير منهم يرون أنهم عرب، وهو وارد جدا، وولف، و سرغلة) لا تنتمي إلى الصنفين.
ما يمز موريتانيا هو ما يميز ولادتها العصرية. وهذه مسألة لا تحبذ النخب الخوض فيها أو تتحاماها لأسباب معروفة. موريتانيا الحديثة ولدت كدولة قبل أن تولد كفكرة. وهذه ليست حتى أكبر المشكلات لأن الكثيرة من الدول بل وأغلبها يخلق بالتخيل الرجعي، في أوروبا، مثلا. لكن موريتانيا هي دولة من نوع آخر. موريتانيا هي دولة لها تارخ من العيش تحت الإستعمار. لكن و على خلاف الدول التي تشترك معها في تجربة من هذا القبيل، فإن موريتانيا دخلت في عباءة الإستعمار بسهولة و خرجت منها بسهولة. ولذلك لم يساعد الإستعمار في خلق شرعية مقاومة تفرض نفسها كذات بديلة للإستعمار وتعرف نفسها كنقيض له. فموريتانيا لم تكن فرنسا عندما كانت محتلة و لم تصبح نقيض فرنسا حتى خطابيا بعد الإستقلال. التعريب و الإسلام في ديار الجزائر، هما عملتان تستمدان أساسهما من حرب الإستقلال و من ربط الذات الجزائرية بهما في مواجهة الذات الفرنسية المحتلة. ما يصدق على الجزائر يصدق على تونس لحد كبير. طبعا ثمة أمثلة أخرى مختلفة سواء في محيطنا أو خارجه، لكن في كل هذه ثمة أسس عملية استمدت منها السياسة اللغوبة شرعيتها.
في المغرب مثلا استمدت العربية أساسها من بعد آخر--بعد منه تأخذ كل جوانب الحياة معناها في المغرب. إنه الأسرة الشريفة التي ترى أنها إمتداد لآل البيت--عرب من بيت النبوة يخدمون دينا. ليس ثمة أدنى شك أن اللغة العربية هي اللغة الوحيدة المنطقية لكي تكون لغة مملكة تلك صورتها.
طبعا في بعض الحالات يكون الإحتلال الأساس الشرعي والواقعي الوحيد لجعل لغة ما لغة إدارة، لإن الدولة الحديثة في كثير من الإحيان ينظر لها على أنها هبة أوربية، تولدت من عصر الكولونيالية، لكن في معظم هذه الأمثلة إمان أن لا تكون هناك في السياقي التاريخ السابق لغة إدارية أو حضارية مورست بها الإدارة أو لم تحمل بعدا غير دهراني بالنسبة للناطقين بها.
ويحصل في هذا النوع من السياقات وجود طبقة عريضة دربت من طرف الإستعمار تتولى مقاليد مرحلة ما بعد رحيله.
هذه الحالة لا تنطبق على موريتانيا لا من حيث غياب البديل التاريخي--مع بعض الميوعة بخصوص بعد الجوانب في هذه المسألة بالذات وخصوصا ما يتعلق بالنسق الإداري المركزي--ولا من حيث مستوى الإستثمار في نخب ما بعد رحيل المستعمر. ولذلك كانت موريتانيا الدولة غير موريتانيا الشعب. وهذا ينطبق على كل الطوائف.
بعد أكثر من خمسين سنة من الإستقلال تبقى اللغة التي حسمت دستوريا إلى إشعار آخر مسألة أخذ ورد لاعتبارات سياسية و طبقية، و زمنية.
الغريب فعلا هو أن تكون الفرنسية و هي ليست إحدى اللغات المحلية، و ليست حتى اللغة الوحيدة للنخب المتعلمة، و ليست حتى اللغة الغالبة لمعظم النخب المتعلمة هي البديل في وعي أو لا وعي بعض النخب، ومن الغريب أن يكون الإكراه اللغوي عليها أو ضدها السبيل في عيون أطراف أخرى من النخبة.
الصراع حول اللغة في موريتانيا هو صراع لا واقعي، لا منطقي و بلا معنى، وكل السياسات اللغوية التي أقيمت عليها تتميز بنفس الخصائص و كل ما أنتجته يتمتع بها أيضا. إنها سياسات تمزيق، و ليست سياسات توحيد، بل و لست حتى سياسات إدارة أعمال غبية.
الحجج التي يسوقها مناصرو اللغة الفرنسية يمكن أن تختزل في ثلاث. إحداها عرجاء، وإحداها كذب محض، و الأخرى توضع في غير محلها.
أما الحجة العرجاء فهي أن العربية دخيلة على الإدارة في موريتانيا، وأن الفرنسية هي التي كانت لغة الإدارة حتى أواسط الستينات. هذا الكلام مردود عليه، لأن من يعارضون الإكراه اللغوي من العربية التي عاشوا بجوارها، و آمنوا بأجمل كتاب خط بها، يقبلون بمرحلة الفرنسة هذه و يرونها الأساس، دون أن يقرأوها إما على أنها مرحلة من مراحل الحركة نحو الإستقلال قبل فيها بإكراهات، أو مرحلة أخيرة من الإستعمار تطوى بما أنطوت عليه. فالمنطق لا يسمح بأن تكون الفرنسية اللغة الأساسية في موريتانيا، فلا هي من لغات الشعوب، و لاهي اللغة التي يتعلم كل أبناء الوطن من حيث المبدأ: على الأقل القراءة و التهجي بها.
أما الحجة الكاذبة فهي أن الفرنسية لغة العلم أو لغة العالم. لا هذه و لا تلك. الفرنسيون يترجمون من كتب الإنجليزية، و يحاربون بمعاهدهم لكي تبقى لغتهم حية، ولولا كرم أفريقيا السوداء و بعض اللبنانيين، لما بقي لها إلا برج إيفل.
أما الحجة التي توضع في غير محلها فهي كون وجود لغة أخرى غير اللغة الفرنسية كلغة إدارة رسمية يعني تهميش من تعلموها. هذا لا يحصل إلا إن أرادت الإدارة ذلك و قد يحصل و الفرنسية لغة التعليم و العيش. ولذا فلا معنى لربط الإثنين. الدولة ملزمة بتوفير فرص العمل و العيش المتكافئ بالنسبة للكل سواء تكلموا بالصينية أو اليابانية. والإدارة يفرض عليها أن توفر الوسائل لذلك من مترجمين و غيرهم. إن تخلت الدولة عن تلك المسؤولية اتجاه أي طرف فهو عمل يجب على الكل أن يقف ضده، ولا يجب أن تحمل أوزاره للغة.
طبعا يحب أن لا تستخدم اللغة كذريعة أو وسيلة لممارسة التمييز، كما لا أرى عدلا معارضة التعريب إن وجدت مرونة في تطبيقه بدعوى التمييز ضد الأقلية أو الأكثرية.
تعليقات
إرسال تعليق